هروب رؤوس الأموال من الصين على خلفية الصراع مع الولايات المتحدة

سياسة

لسنوات عديدة وحتى وقت قريب كانت الصين تعد بمثابة ”مصنع العالم“، لكن يبدو أن رؤوس الأموال الأجنبية بدأُت مؤخراً في البحث عن وجهات جديدة أكثر أماناً. وحتى على الصعيد المحلي أرتفع عدد الأثرياء الصينيين الساعيين إلى الهروب بأموالهم وعائلاتهم إلى الخارج. في هذا المقال نلقي الضوء على الموقف الحالي محاولين التعرف على خلفياته واستنباط نتائجه.

كيف استطاع الاقتصاد الصيني في 30 عاماً فقط تجاوز نظيره الياباني

يعود الفضل في النهضة التي حققتها الصين حديثاً إلى الزعيم دينغ شياوبينغ الذي قرر قبل أكثر من 40 عاما من الآن إنهاء سياسة ”الأبواب المغلقة“ التي أسسها الزعيم السابق ماو تسي تونغ، ووضع مسارًا جديدًا يعتمد على نهج الإصلاح والانفتاح. وبحسب ما ذكره المستثمرون الأجانب الذين تجاوبوا مع سياسة الانفتاح فإن الصين بحجمها الكبير كانت تعاني من اضطرابات وتخلف واضح على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في ذلك الوقت، إلا أن انتهاج الزعيم دينغ شياوبينغ لسياسة واقعية -خلافاً لما عرف به أي زعيم سابق للحزب الشيوعي الصيني- جعله يركز على اللحاق بركب العالم المتقدم. لذلك قام بوضع مجموعة من السياسات التي تهدف إلى تشجيع الشركات الأجنبية على الاستثمار في السوق الصيني بشكل مباشر.

وفي خلال 30 عاماً فقط كانت نتائج النمو الاقتصادي تتجلى بشكل واضح، حيث حقق الاقتصاد الصيني قفزات هائلة. فخلال عام 2010 تجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره الياباني. وتزامن ذلك أيضا مع قيام العديد من الصينيين بالسفر إلى الخارج، حيث فوجئوا بالحالة المتداعية للمطارات والطرق والبنية التحتية الأخرى في العديد من البلدان الغنية التي زاروها، الأمر الذي جعلهم ولأول مرة يشعرون بالفخر ببلدهم وما حققته الجمهورية الصينية من تقدم على مختلف الأصعدة.

يذهب الكثير من الصينيين إلى تبني نظرية داروين للتطور عند الحديث عن المعجزة الصينية، كما يؤمنون بحتمية غزو الدول القوية للدول الضعيفة، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في مناهج التاريخ في المدارس الصينية. لذلك يتباهى الصينيون بقدرة بلادهم على تحقيق نمو اقتصادي خلال 30 عاماً فقط، مقارنة بالمائة عام التي استغرقتها الدول الصناعية لتحقيق نهضتها. هذه الحقيقة جعلت الشعب الصيني أكثر فخرًا.

سياسة مركزية وراء التوترات بين الصين والولايات المتحدة

في عام 2022 بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين 12800 دولار، وعلى الرغم من ذلك إلا أن الصين ما زالت تقدم نفسها على أنها دولة نامية، الأمر الذي عزز موقف بعض الخبراء السياسيين الذين يرون أن الصين تقوم بالتحايل على منظمة التجارة العالمية من أجل الحصول على معاملة تفضيلية فيما يتعلق التجارة الدولية. فإذا كانت الصين حقاً تقدم نفسها كدولة نامية -على الرغم من أنها لم تعد كذلك- لكي تحصل على معاملة تفضيلية، فإن هذا يعد تزييفاً للواقع وخداعاً للمجتمع الدولي.

في الحقيقة استمرار الصين في تقديم نفسها كدولة نامية ساعدها كثيراً على تعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية والبلدان النامية الأخرى. ومن الناحية الدبلوماسية، فقد ضمن هذا الوضع للصين أصوات تلك الدول داخل منظمة الأمم المتحدة باعتبارها دولة نامية تسير معهم في نفس المسار.

ومن الجدير بالذكر أنه منذ تولي شي جين بينغ رئاسة الجمهورية عام 2013، حرصت الصين وبشكل منتظم على تقديم 60 مليار دولار للدول الأفريقية كل ثلاث سنوات. وبالرغم من تباطؤ الاقتصاد الصيني بسبب جائحة كوفيد -19، إلا أنها لا تزال ملتزمة بتعهداتها بتقديم 30 مليار دولار كمساعدات للدول الأفريقية خلال الفترة المقبلة. إضافة إلى المنح الدراسية شاملة التكاليف والتي توفرها الجامعات الصينية للعديد من الطلبة الأفارقة كل عام. لذلك تعتبر علاقة الصين بأفريقيا أحد ركائز سياستها الخارجية.

ومن الواضح أن سياسة الصين التوسعية جعلتها عرضة للعديد من الانتقادات على المستوى الدولي. حيث أن علاقة الجمهورية بالدول النامية قد أصبحت على درجة كبيرة من القوة، كما أن مبادرة ما يسمى بالحزام والطريق جاءت لتعزيز وتوطيد هذه العلاقة بشكل أكبر. حيث تهدف هذه المبادرة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري من خلال دعم مشاريع البنية التحتية في البلدان النامية، كما تعمل أيضا على تعزيز تأثير السياسة الخارجية الصينية. بعبارة أخرى، هذا التوجه يهدف إلى خلق نظام عالمي جديد مركزه الصين الشعبية.

ورغم الإرشادات المتكررة التي يتلقاها الزعيم شي من قادة الدول النامية خلال زياراتهم إلى بكين، إلا أن الزعيم الصيني قد فشل في إدارة خطر الصراع مع الولايات المتحدة. ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين لتوسيع نفوذها في الخارج، ارتكبت إدارة شي خطأً فادحاً بالاشتباك مع هوس الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم. وهذا ما يجعلنا نخلص إلى أنه وبالرغم من توصل الصين إلى طرق ناجحة في التعامل مع الدول النامية، إلا أنها لازالت تفتقر إلى امتلاك سياسات وطرق آمنة للتعامل مع واشنطن.

ويذكر أنه في عام 2018 أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على فرض عقوبات مفاجئة على الصين من أجل تعديل كفة الوضع التجاري غير المتوازن بين البلدين. كما تم في الوقت نفسه اعتقال المدير المالي لشركة هواوي السيد منغ وانزهو في أحد المطارات في كندا بناء على طلب وزارة العدل الأمريكية، وهو الأمر الذي أشعل شرارة الصراع بين الجمهورية والولايات المتحدة، كما عزز تصميم الزعيم شي على الرد.

أزمة سلاسل التوريد

لقد كانت جائحة كورونا التي بدأت في عام 2020 واستمرت لمدة ثلاث سنوات كاملة هي التي غيرت بشكل حاسم الطريقة التي ينظر بها العالم إلى الصين. ومن وجهة نظر خارجية وبغض النظر عن ادعاءات الصين بأنها دولة نامية، فقد ألحقت الصين ضرراً بالغاً بالاقتصادات الرائدة في العالم. كما أن الافتقار المنهجي للشفافية في الصين مثل خطراً كبيراً على العالم أجمع. كما فشلت الحكومة الصينية في الإعلان عن إحصاءات دقيقة حول معدلات الإصابة بفيروس كورونا، وبينما كانت سياسة ”صفر كورونا“ تهدف إلى منع انتشار الفيروس، فقد أدت ايضاً إلى إغلاق البنية التحتية الحيوية، وهو قرار ربما يكون قد أحدث ضرراً أكبر مما احدثه الفيروس نفسه.

كما ترفض الحكومة الصينية بشكل قاطع السماح لتايوان بالاستقلال، وأكد الرئيس شي مرارًا وتكرارًا أنه لا يستبعد استخدام القوة من أجل ”إعادة توحيد“ تايوان مع البر الرئيسي. وهو ما يمثل خطرًا كبيراً على الشركات الأجنبية التي تمارس نشاطًا تجاريًا داخل الصين. وعلى الرغم من أن الحكومة الصينية قد أوقفت فعليًا سياسة ”صفر كوفيد-19“ في ديسمبر/ كانون الأول عام 2022، إلا أنها لم تنفذ بعد أي سياسة فعالة تهدف إلى تحقيق الانتعاش الاقتصادي.

وسط كل هذه التوترات الصينية - الأمريكية المتصاعدة، تواجه الشركات الأجنبية حيرة في معرفة ما إذا كان ينبغي عليها الانسحاب من الصين أم الإبقاء على أنشطتها في الداخل. فبينما يعتقد العديد من الاقتصاديين أنه سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة ”فصل“ نفسها عن شريكها التجاري اللدود، فإن البلدين في الواقع منقسمان تمامًا بالفعل فيما يتعلق بالابتكارات في صناعة أشباه الموصلات ومجالات التكنولوجيا الفائقة. على سبيل المثال، يُطلب من الجامعات الأمريكية التي تقبل الباحثين الصينيين كزوار إجراء فحوصات أمنية شاملة. كما يرى أحد الباحثين من مؤسسة فكرية مرموقة في واشنطن أن انفصال الولايات المتحدة عن الصين هو نوع من ”فك الارتباط“. بعبارة أخرى، في حين أن الفصل التام بين الولايات المتحدة والصين أمر غير مرجح، فقد بدأت الولايات المتحدة في وضع الصين بمنأى عن كل الأنشطة المتعلقة بالتكنولوجيا ذات الصلة بالأمن والمجالات الأخرى التي يمكن أن تهدد الهيمنة التكنولوجية الأمريكية. أحد الأمثلة على ذلك هو حقيقة أن المصنعين الصينيين أصبحوا غير قادرين على الحصول ليس فقط على الفئة الأكثر تطوراً من أشباه موصلات الطاقة، ولكن أيضًا على المعدات اللازمة لتصنيع هذا النوع من أشباه الموصلات.

وهذا يعني أن الشركات متعددة الجنسيات اصبحت مجبرة على إعادة التفكير في سلاسل التوريد العالمية الخاصة بها، والتي تتركز حاليًا في الصين. فبينما تترك هذه الشركات عملياتها ”في الصين من أجل الصين“ كما هي، فإنها تحرص على الاسراع في نقل مراكز التصنيع الخاصة بها والموجهة إلى التصدير إلى دول أخرى مثل الهند وفيتنام.

المخاطرة التايوانية

بينما ينقسم الخبراء حول احتمالية غزو الصين لتايوان، لكن من منظور إدارة المخاطر فإننا بالتأكيد نحتاج إلى الاستعداد لمثل هذا السيناريو القاتم. لقد بدأت بعض الشركات الأجنبية بالفعل في نقل مراكز الإنتاج الصينية إلى خارج البلاد. على سبيل المثال يتردد إن شركة هون اي بريسيشون إندوستري ”فوكسكون“ ومقرها تايبيه، والتي تصنع الهاتف الخلوي أي فون لصالح شركة أبل، قد نقلت نصيب الأسد من مصانعها في هينان الصينية إلى الهند، كما أغلقت بعض الشركات اليابانية مصانعها في الصين.

ولا يقتصر الأمر على الاستثمارات الأجنبية العاملة في الصين فحسب، فالتقارير تشير إلى زيادة عدد الأثرياء الصينين الذين يسارعون إلى نقل أموالهم إلى الخارج، حيث يقومون ببيع الشقق والعقارات التي يملكونها في المدن الكبيرة ويهاجرون إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. في الواقع ليس الأثرياء فقط هم من يحاولون المغادرة، فقد ألقت دورية حرس الحدود الأمريكية القبض على أكثر من 6000 مواطن صيني خلال الفترة من أكتوبر/ تشرين 2022 وحتى مارس/ أذار 2023 بالقرب من الحدود الأمريكية مع المكسيك. هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين المحتملين لم يكونوا بالتأكيد أثرياء، ولكنهم كانوا يطمحون إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة. وفي المقابلات التي أجرتها وسائل الإعلام الأمريكية مع هؤلاء الأشخاص، كان أول ما يبررون به محاولاتهم لدخول الولايات المتحدة هو أن سياسة الصين التي كانت تهدف إلى الوصول إلى ”صفر كوفيد-19“ كانت سياسة فاشلة أدت إلى تدهور الأمور داخل البلاد بشكل كبير، بينما لم يصدر من الصين أي تعليق بخصوص هذا النزوح الجماعي. وانا هنا لا أنوي مناقشة أمر الهوية الصينية، فليس من السهل على أي فرد الهروب والتخلي عن وطنه مالم يكن الوضع فعلاً خطير.

في الختام، اسمحوا لي أن أترككم مع فقرة من مختارات كونفوشيوس، والتي يقول فيها: ويوان بو رو، لانبانغ بو جو، وتعني ”لا تدخل أبدًا دولة خطرة، ولا تسكن لفترة طويلة في حالة من الفوضى“. فإذا أرادت الصين أن تصبح آمنة لشعبها، فيجب عليها أولاً العودة وبسرعة إلى المسار الذي سلكته خلال سنوات دينغ شياوبينغ.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: مدينة زينغزو بمقاطعة هينان أصبحت شبه مهجورة من بعد رحيل فوكسكون. © فيتشر تشاينا / كيودو)

الصين العلاقات الخارجية العلاقات اليابانية الأمريكية العلاقات الروسية اليابانية