التضامن في الأوقات الصعبة: كيف تفهم اليابان محنة أوكرانيا؟

سياسة

منذ أن بدأت روسيا غزوها لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، لم تتوقف تداعيات الحرب عن إعادة تشكيل العلاقات الدولية. في اليابان، يزداد الاهتمام بالشأن الأوكراني، حيث تعكس تصريحات أكاديمية أوكرانية مقيمة هناك كيف تطور الفهم الياباني لبلادها، مما ساهم في توطيد العلاقات بين البلدين وسط استمرار الصراع. فكيف يؤثر هذا التقارب على المشهد السياسي والدبلوماسي بين اليابان وأوكرانيا؟

لقد وصلت إلى اليابان في سبتمبر 2006 للمشاركة في برنامج دراسة اللغة اليابانية لفصل دراسي واحد. كانت تلك التجربة الأولى لي خارج بلدي، والأولى التي اكتشفت فيها مدى ضآلة معرفة معظم اليابانيين بأوكرانيا.

عندما كنت أقدم نفسي كأوكراني، كنت أُفاجأ بأسئلة تتعلق بمناخ روسيا وثقافتها وأدبها، رغم أنني لم أزر روسيا قط. بل والأكثر غرابة، أن التاريخ والفن الأوكرانيين كانا غالبًا إما مجهولين تمامًا أو يُنسبان خطأً إلى روسيا. ومع تكراري المستمر لشرح أن أوكرانيا ليست روسيا، بدأت أتساءل: كيف تشكلت هذه المفاهيم الخاطئة في المقام الأول؟

إحدى الأسباب الرئيسية تكمن في أن اليابان، مثل العديد من الدول الأخرى، عرفت أوكرانيا من خلال المعلومات التي نشرتها روسيا الإمبراطورية، ثم الاتحاد السوفييتي، ولاحقًا الاتحاد الروسي. وكون روسيا قوة استعمارية تقليدية، فقد عملت تاريخيًا على قمع الهوية الأوكرانية، مقدمةً نفسها كالمتحدث الوحيد باسم البلاد. هذه السرديات الروسية انتشرت عبر الكتب والمصادر الإعلامية، ما عزز الصورة النمطية التي تصوّر أوكرانيا كدولة تدور بالكامل في فلك النفوذ الروسي.

في عام 2014، عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم واستولت لاحقًا على جزء من منطقة دونباس، وجدت نفسي مرة أخرى أمام واقع مدى قوة الدعاية الروسية وتشويهها للتاريخ. ورغم أن الحكومة اليابانية أدانت الاحتلال وفرضت عقوبات على روسيا، إلا أن وسائل الإعلام اليابانية آنذاك لم تُحلل المعلومات الواردة من أوكرانيا بشكل كافٍ، بل غالبًا ما تبنت الروايات الروسية دون تدقيق. كانت الادعاءات مثل ”القرم روسية تاريخيًا“، و”الأوكرانيون والروس يشكلون أمة واحدة“، و”الناطقون بالروسية في أوكرانيا هم روس“ تُعرض في وسائل الإعلام دون مساءلة. ومع مرور الوقت، تراجعت هذه التقارير، وبدأ الرأي العام الياباني ينسى الحرب المستمرة بين أوكرانيا وروسيا.

هذه التجربة جعلتني أدرك ليس فقط التحديات التي تواجهها أوكرانيا في إثبات هويتها المستقلة على الساحة الدولية، ولكن أيضًا كيف يمكن للروايات التاريخية المشوهة أن تؤثر في تصورات الشعوب الأخرى لعقود طويلة.

أن تصبح بلدًا أكثر ألفة

في 24 فبراير/ شباط 2022، شنت روسيا غزوًا واسع النطاق لأوكرانيا، وأعلنت الحكومة اليابانية فورًا دعمها لكييف، مدينةً بشدة محاولة موسكو تغيير الوضع الراهن بالقوة. لا تزال كلمات رئيس الوزراء كيشيدا فوميئو في فبراير/ شباط 2023 عالقة في ذهني، حين قال بحزم: ”أوكرانيا اليوم قد تكون شرق آسيا غدًا“. كانت هذه الجملة أكثر من مجرد تعبير عن التضامن، بل حملت تحذيرًا استراتيجيًا يعكس مخاوف اليابان من تغير موازين القوى في المنطقة.

على عكس التغطية الإعلامية في عام 2014، جاءت هذه المرة أكثر شمولًا ووضوحًا، ربما بسبب الدروس المستفادة من السنوات الماضية. سلطت وسائل الإعلام اليابانية الضوء على جرائم الحرب الروسية والأزمة الإنسانية في أوكرانيا من خلال تقارير مباشرة من قلب الحدث، واستعانت بتحليلات متخصصة لعدد من الباحثين اليابانيين في الشأن الأوكراني، ما أضفى بعدًا أكثر عمقًا على التغطية.

في تلك الفترة، تلقيت طلبات ترجمة غير مسبوقة من مؤسسات إعلامية يابانية، وهو الأمر الذي لم يكن استثناءً بالنسبة للمترجمين الأوكرانيين الآخرين. خلال الأشهر الستة الأولى، كنت منخرطة بشكل مكثف في إنتاج الأخبار والبرامج التلفزيونية بشكل يومي تقريبًا. لم تقتصر هذه البرامج على استعراض تطورات الحرب فحسب، بل تناولت أيضًا التفسيرات التاريخية والثقافية، والسياسات الروسية التي استهدفت أوكرانيا على مدى عقود، مثل محاولات قمع اللغة الأوكرانية. كان الفرق بين التغطية الإعلامية الحالية وتلك التي شهدناها قبل عقد من الزمن واضحًا وجليًا.

 لافتة تشكر اليابان على دعمها لأوكرانيا في شينجوكو، طوكيو، 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. (© يوليانا رومانيف)
لافتة تشكر اليابان على دعمها لأوكرانيا في شينجوكو، طوكيو، 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. (© يوليانا رومانيف)

من أكثر التغييرات الرمزية التي عكست هذا التحول في الموقف الياباني كان قرار وزارة الخارجية اليابانية بالتخلي عن استخدام الاسم الروسي ”كييف“ (المكتوب كـ キエフ باليابانية) عند الإشارة إلى العاصمة الأوكرانية، والاعتماد بدلًا من ذلك على الاسم الأوكراني ”كييف“ (キーウ) وسرعان ما حذت معظم وسائل الإعلام اليابانية حذوها، فأعادت النظر في العديد من الأسماء الجغرافية، مستبدلة النسخ الروسية بأخرى أوكرانية: أصبحت ”أوديسا“ (オデッサ) ”أوديسا“ (オデーサ)، وتحولت ”تشيرنوبيل“ (チェルノブイリ) إلى ”تشورنوبيل“ (チョルノービリ)، كما تغير اسم نهر ”دنيبر“، الذي كان يُنطق بالروسية ”دنيبر“ (ドニエプル川)، إلى ”دنيبرو“ (ドニプロ川).

بالنسبة لي كأوكرانية، كان هذا التغيير يحمل دلالة عميقة. شعرت بفرحة حقيقية وأنا أرى اليابان تعترف بلغتنا وتاريخنا المستقل، وكأنها تعيد رسم صورة أوكرانيا في وعيها الوطني. في تلك اللحظة، أدركت أن نظرة اليابانيين إلى بلدي لم تعد كما كانت؛ لم تعد أوكرانيا مجرد اسم غامض على الخريطة، بل أصبحت كيانًا حقيقيًا في أذهانهم، بلداً يعرفونه ويهتمون به.

تزايد الاهتمام العام والأكاديمي

أعيش في اليابان منذ عام 2012 وأعمل حاليًا كمدرسة في إحدى الجامعات. وكما هو الحال في العديد من الدول الأخرى، كانت الدراسات الأوكرانية شبه غائبة عن الأوساط الأكاديمية اليابانية. حتى في المؤسسات المتخصصة في دراسات شرق ووسط أوروبا، غالبًا ما نُظر إلى أوكرانيا من خلال عدسة روسية، دون اعتبارها كيانًا مستقلًا بحد ذاته. والدليل على ذلك أنه من بين حوالي 800 جامعة في اليابان، لم يكن هناك سوى عدد قليل جدًا من الجامعات التي أدرجت اللغة الأوكرانية كمادة دراسية قبل عام 2022.

لكي يصبح المرء خبيرًا حقيقيًا في بلد ما، لا بد له أولًا أن يتعلم لغته قراءةً وكتابةً. فمن دون ذلك، يصعب فهم تاريخه وحقائقه الاجتماعية. وعلى الجانب الآخر، فإن نشر تاريخ أوكرانيا وتعزيز دراسة لغتها يسهمان في تشكيل تصور أكثر دقة عنها، بل ويمثلان خطوة مهمة نحو تعزيز التعاون الدولي في مواجهة طموحات روسيا لإعادة تشكيل النظام العالمي. ومع مرور الوقت، أصبحت أكثر اقتناعًا بهذه الفكرة.

بدأت أتساءل: ما الذي يمكنني فعله؟ كيف يمكنني الحفاظ على اهتمام الناس بأوكرانيا وزيادته؟ شيئًا فشيئًا، بدأت أجد الجواب في محاضرة مفتوحة قدمتها لأول مرة في جامعتي بعنوان ”تاريخ وثقافة أوكرانيا“. منذ عام 2022، أقدم هذه المحاضرة سنويًا، وفي كل مرة، يحضرها العشرات من المشاركين. رؤية تفاعلهم الجاد وشغفهم بمعرفة المزيد جعلتني أشعر أخيرًا أن الوقت قد حان للأوكرانيين كي يرووا قصتهم بأنفسهم.

 الكاتبة أثناء محاضرة عن التاريخ والثقافة الأوكرانية في جامعة إيباراكي المسيحية في أكتوبر 2023. (بإذن من يوليا دزيابكو)
الكاتبة أثناء محاضرة عن التاريخ والثقافة الأوكرانية في جامعة إيباراكي المسيحية في أكتوبر 2023. (بإذن من يوليا دزيابكو)

كتاب الكاتبة “أوكرانيا غير معروفة لليابان” أصبح الآن بين يدي القراء اليابانيين. (بإذن من يوليا دزيابكو)
كتاب الكاتبة “أوكرانيا غير معروفة لليابان” أصبح الآن بين يدي القراء اليابانيين. (بإذن من يوليا دزيابكو)

ذات مرة، سألت امرأة تبلغ من العمر 70 عامًا حضرت محاضرتي عن سبب اهتمامها بالدورة. أجابتني بصدق قائلة: ”بدأت بمساعدة شعب أوكرانيا، لكنني أدركت أنني لا أعرف الكثير عن أرضهم. إذا كنت سأدعم بلدًا، فيجب أن أفهمه أولًا“. كلماتها البسيطة تركت أثرًا عميقًا في نفسي، وطمأنتني إلى أن التغيير يحدث بالفعل، وإن كان بخطى ثابتة.

من التطورات الواعدة الأخرى الزيادة الملحوظة في عدد المنشورات عن أوكرانيا. فإلى جانب الكتب التي تتناول السياسة والتاريخ والشؤون العسكرية، بدأت تظهر أعمال أدبية ويوميات حربية مباشرة، بالإضافة إلى ترجمات تغطي أنواعًا مختلفة. هذا الاتجاه لا يعزز فقط المعرفة بأوكرانيا، بل يساهم أيضًا في تشكيل فهم أكثر عمقًا لهويتها وثقافتها.

توسيع التضامن الشعبي

على مدار السنوات الثلاث الماضية، تعززت العلاقات بين الأوكرانيين واليابانيين بشكل متزايد، مما أسهم في تعميق التفاهم المتبادل بين الثقافتين. يعيش اليوم في اليابان نحو 4,000 أوكراني، جاء نصفهم ضمن جهود الإجلاء التي دعمتها الحكومة اليابانية. يشارك هؤلاء الأوكرانيون في فعاليات التبادل الدولي المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، كما ينظمون معارض وتجمعات تهدف إلى دعم أوكرانيا، وذلك بالتعاون مع منظمات غير حكومية ومجموعات محلية.

من بين المبادرات البارزة، تبرز مجموعة ”Stand with Ukraine Japan (SWU Japan)“، التي تأسست بشكل أساسي من قبل الأوكرانيين المقيمين في اليابان. تجتمع هذه المجموعة مرتين في الشهر في طوكيو، بدعم من حلفاء يابانيين، حيث ينظم المشاركون مظاهرات سلمية، حاملين لافتات مناهضة للحرب وأعلام أوكرانيا، في تعبير واضح عن تضامنهم المستمر مع وطنهم.

امرأة تحمل العلم الأوكراني دعماً للبلاد في فعالية حضرها عدد كبير من الحضور في نوفمبر 2024 في شينجوكو، طوكيو. (© يوليانا رومانيف)
امرأة تحمل العلم الأوكراني دعماً للبلاد في فعالية حضرها عدد كبير من الحضور في نوفمبر 2024 في شينجوكو، طوكيو. (© يوليانا رومانيف)

من بين المجموعات المؤثرة الأخرى، تبرز منظمة ”Kraiany“ غير الحكومية، التي تُعد أقدم مجتمع أوكراني في اليابان، حيث لعبت دورًا محوريًا في تعزيز التبادل الثقافي بين الشعبين الياباني والأوكراني. في مايو من العام الماضي، استضاف مقهى ”Kraiany“ الأوكراني في ميتاكا، طوكيو، فعالية جمعت العديد من الزوار اليابانيين، ما أتاح فرصة فريدة للتفاعل المباشر. خلال الحدث، عبّر أحد المشاركين، وهو رجل في الستينيات من عمره، عن انطباعه قائلًا: ”الأوكرانيون يعلمونني عن تاريخهم وثقافتهم. بهذه الطريقة، يتعمق تفاعلنا.“ ولا شك أن مثل هذه المبادرات المخلصة تثمر في بناء جسور التفاهم المتبادل.

تتطور نظرة اليابانيين إلى أوكرانيا تدريجيًا، حيث لم تعد مجرد بلد بعيد، بل باتت تُرى كأمة تكافح بشجاعة من أجل حريتها واستقلالها. إن عملية معرفة وفهم بلد ما تحتاج إلى وقت، لكن من المهم أن نتذكر أن العلاقات بين الدول تبدأ دائمًا من الروابط الشخصية. وختامًا، أود أن أعبر عن امتناني العميق، كأوكراني، لشعب اليابان على تضامنه الصادق.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان الرئيسي: أعضاء مجموعة Stand with Ukraine Japan يحضرون حدثًا لدعم البلاد في شينجوكو، طوكيو، في 17 نوفمبر / تشرين الثاني 2024. © يوليانا رومانيف)

العلاقات اليابانية الأمريكية العلاقات الروسية اليابانية السياسة الدولية الحكومة اليابانية