وداعًا ريتشارد أرميتاج: مهندس التحالف القوي بين واشنطن وطوكيو

سياسة

في كل علاقة أو تحالف بين اثنتين من القوى العالمية العظمى توجد دائماً شخصية محورية تتسم بالحكمة وبعد النظر تسعى من قلبها لتعزيز الحوار بين الدولتين وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مهما كانت الظروف. وفي التحالف بين الولايات المتحدة واليابان كان ريتشارد أرميتاج هو هذا الشخص الذي يكن حباً عميقاً لبلده، الولايات المتحدة، واليابان التي زارها مراراً وتكراراً وكانت تربطه علاقات صداقة قوية بشعبها ونخبتها السياسية، فكان دائم الحرص على تعزيز التحالف بين البلدين وإيصال وجهة النظر اليابانية إلى الولايات المتحدة بكل أمانة وصدق. السطور التالية هي رسالة تأبين لريتشارد أرميتاج الذي وافته المنية في الثالث عشر من أبريل/نيسان من هذا العام.

ذكرياتي مع الراحل

توفي ريتشارد أرميتاج في الثالث عشر من أبريل/نيسان من هذا العام. ولقد صُدمت لسماع هذا الخبر الحزين في الصباح الباكر من يوم الخامس عشر من أبريل/نيسان بتوقيت اليابان، فقبل ثلاثة أيام فقط كنت أتواصل معه عبر البريد الإلكتروني، وعلمت أنه يخطط لزيارة اليابان في مايو/أيار ويرغب في لقائي. لكن سرعان ما تبددت الصدمة وحل محلها حزنٌ عميق حين تذكرت وجهه المبتسم في أول لقاء لنا في واشنطن العاصمة حين كنت طالب دراسات عليا قبل نحو ثلاثة عقود.

كان لريتشارد أرميتاج سحر إنساني فريد، يعبر عن طيف واسع من المشاعر، وهو ما نطلق عليه باليابانية ’كي دو آي راكو'، أي الفرح والغضب والحزن والسرور، ولقد عشت كل تلك اللحظات بمشاعرها المتضاربة مع ريتشارد.

فيما يتعلق بـ”كي“، أو الفرح، أتذكر زيارتي الأولى للولايات المتحدة بعد انتخابي في مجلس النواب الياباني لأول مرة. حينها استقبلني ريتشارد بابتسامة مشرقة، واحتضنني بين ذراعيه مهنئًا. ما زلت أشعر بضمة صدره العريض القوي على صدري.

بالنسبة للغضب، لا أستطيع أن أنسى إحباطه الشديد خلال حرب الخليج عام 1991، عندما أصرّت اليابان على عدم التدخل عسكرياً في شؤون الدول الأخرى مما أدى إلى عزلتها عن بقية العالم، حيث نتجت عن ”دبلوماسية دفتر الشيكات“ (أي تقديم مساعدات مالية بدلاً من التدخل العسكري)، التي انتهجتها اليابان هوة كبيرة بينها وبين بقية دول التحالف الذي قادته الولايات المتحدة آنذاك.

وفيما يتعلق بالحزن، تتبادر إلى ذهني صورة الزيارة التي قمنا بها معًا إلى آكي آبي، أرملة رئيس الوزراء السابق آبي شينزو، بعد أشهر من اغتياله بالرصاص. لقد كان الحزن الذي بدا على وجهه وهو يتحدث معها عميقاً لدرجة جعلتني أبكي. أما بالنسبة لـ ”راكو“، أو المتعة التي نستمتع بها بصحبة أصدقائنا، فلديّ ذكريات لا تُحصى، منها تلك الأوقات التي كنا نرفع فيها كؤوسنا معًا، وهو يروي ذكريات أيام لعبه لكرة القدم في الأكاديمية البحرية الأمريكية، وحكاياته المشوّقة عن خدمته في فيتنام، فضلاً عن قصص أكثر من 50 طفلًا ساهم في رعايتهم أثناء وجودهم في دور الرعاية، معظمهم من أيتام حرب فيتنام. لم أسأم أبداً من سماع قصصه المشوّقة نظراً لأسلوبه المرح وصوته الأجش، ونادراً ما استطعت تمالك نفسي من شدة الضحك.

تحريك المياه الراكدة في العلاقات الأمريكية اليابانية

عاش ريتشارد أرميتاج حياته بأسلوب يُجسّد النموذج الأمثل للوطني الحقيقي. لطالما أكد موقفه الفكري على أنه صديق مُخلص لليابان. لا أجادل في هذا الرأي، بل أقول إنه كان، بالأحرى، صديقًا لتحالف اليابان مع الولايات المتحدة، حيث كان يُدرك في أعماقه أن الروابط القوية مع اليابانيين مسألةٌ حيويةٌ للغاية للمصالح الأمريكية.

شغل أرميتاج عددًا من المناصب الرسمية في الولايات المتحدة، بما في ذلك منصب نائب وزير الخارجية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش بين عامي 2001 و2005، وكان مجال تخصصه في الغالب نصف الكرة الشرقي، أي المنطقة التي تُغطيها القيادة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ. وبالتالي فقد واجه تحدياتٍ دبلوماسية في دولٍ مثل إيران والعراق وباكستان والفلبين، بينما عمل أيضًا على تعزيز العلاقات الأمنية بين أمريكا وكوريا الجنوبية واليابان.

ولعل من بين أعظم إنجازاته تقارير أرميتاج-ناي، التي نُشرت بالاشتراك مع البروفيسور جوزيف ناي من جامعة هارفارد ست مرات إجمالاً بين عامي 2000 و2024. إذ مثّلت هذه التقارير مساهمةً هائلةً في السياسة الأمريكية تجاه اليابان، فتجاوزت الخطوط السياسية، وأعادت إحياء التحالف عندما بدا وكأنه ينزلق نحو الهاوية بعد نهاية الحرب الباردة، كما قدّمت توجيهاتٍ هامة للإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء، من بيل كلينتون إلى جورج دبليو بوش، وباراك أوباما، ودونالد ترامب، وجو بايدن.

كنتُ محظوظًا للغاية لأنني تمكنتُ من المشاركة في الاجتماعات التي كانت جزءًا من التحضيرات لإعداد هذه التقارير. من خلال استماعي لتلك المناقشات الحادة التي أثّرت في التقارير النهائية، يمكنني القول إن أهميتها الكبرى ربما تكمن في نجاحها في القضاء على أطروحة ” صمام الأمان“، وهي النظرية القائلة بأن العسكرة اليابانية يجب احتواؤها من خلال التحالف مع الولايات المتحدة، وأنه لا ينبغي السماح لليابان بتوسيع دورها الأمني في شرق آسيا. في عام 1990، صرّح الفريق هنري ستاكبول الثالث، رئيس قوات مشاة البحرية الأمريكية المتمركزة في اليابان آنذاك، قائلاً: ”لا أحد يريد رؤية اليابان مُسلّحة ومنتعشة... يُمكن القول إننا صمام الأمان للتأكد من عدم حدوث ذلك“. كان الاحتكاك التجاري بين الولايات المتحدة واليابان في ذروته في ذلك الوقت، وكانت آراء المنظّرين الأمريكيين بمن فيهم وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر في هذا الشأن متقاربة إلى حد كبير. لكن ريتشارد أرميتاج تدخل في هذا النقاش بحجة قوية مفادها أن اليابان يجب أن تتولى دورًا أمنيًا أكبر. وقد لاقى هذا صدى لدى السياسيين الواقعيين القلقين بشأن الصين الأكثر قوة والتي تتدخل لملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلفته نهاية الحرب الباردة، وسرعان ما أصبح مفهوم ” صمام الأمان“ نسياً منسياً في مناقشات السياسة الآسيوية التي عُقدت في قاعات السلطة في واشنطن.

صياغة شكل جديد للتحالف

أوضح تقرير أرميتاج-ناي الأول، الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2000، جوهر المشكلة بلغة واضحة: ”إن منع اليابان من ممارسة حقها في الدفاع الجمعي عن النفس يُشكل قيدًا على التعاون داخل التحالف“. ولمعالجة هذه القضية، جاءت التوصيات على نفس القدر من الوضوح: ”نرى في العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى نموذجًا يحتذى به للتحالف“.

حتى صدور هذا التقرير، كان الإجماع بين المسؤولين الحكوميين والأكاديميين الأمريكيين هو أن على واشنطن صياغة سياستها تجاه اليابان بناءً على فكرة أن الضغط على اليابان لتغيير أساليبها لن يأتي إلا بنتائج عكسية، وأن توسيع الدور العسكري لليابان لن يؤدي إلا إلى استفزاز الصين، ولهذا يجب تجنب القيام بذلك، بالتالي، ينبغي بناء التعاون التحالفي بين اليابان والولايات المتحدة بحذر شديد.

وقد تبنى هذا النهج التدريجي أعضاء المجموعة التي أعدت التقرير، بمن فيهم جوزيف ناي، الذي كان مساعدًا لوزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي في عهد الرئيس كلينتون، وكورت كامبل، الذي أصبح لاحقًا نائبًا لوزير الخارجية في عهد الرئيس بايدن. لكن أرميتاج عارض آراءهم القائلة بأن تعزيز الأدوار العسكرية لليابان هو قرار لا يتسم بالحكمة، مؤكداً على أن الصعود المستقبلي للصين يجعل تعزيز التحالف مع اليابان حاجةً مُلحة للولايات المتحدة. ولذلك، صرّح بأن على واشنطن أن تُبلغ اليابان بوضوح بالأدوار التي تأمل أن تضطلع بها.

توافقت المجموعة تدريجيًا مع رأي أرميتاج. وعند هذه النقطة، أصبحت فكرة ” صمام الأمان“ التي لطالما أعاقت تطور التحالف الياباني الأمريكي شيئاً من الماضي.

عبّر تقرير عام 2024، وهو التقرير الأخير في السلسلة التي سيضع أرميتاج اسمه عليها، عن مخاوف عميقة بشأن عدم اليقين حول مستقبل المشاركة الأمريكية في النظام الدولي. وحذر المؤلفون من أن ”أعباء القيادة العالمية والإقليمية ستقع بشكل أكبر على عاتق طوكيو في المستقبل القريب“. وبينما نشاهد اليوم الإدارة الثانية للرئيس دونالد ترامب تدفع أمريكا نحو مسار انعزالي، تتأكد لنا صحة هذا التحذير بما لا يدع مجالاً للشك.

ريتشارد أرميتاج يشرح تقريرًا يقدم مقترحات سياسية لليابان في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، واشنطن العاصمة، في أبريل/نيسان 2024. (© جيجي برس)
ريتشارد أرميتاج يشرح تقريرًا يقدم مقترحات سياسية لليابان في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، واشنطن العاصمة، في أبريل/نيسان 2024. (© جيجي برس)

لقد حان الوقت لليابان كي تتحرر من اعتمادها على الولايات المتحدة في مجال الأمن. وأصبح من اللازم أن تكون اليابان مستعدة لصياغة استراتيجياتها الخاصة، وتحمل مسؤولية الأمن الإقليمي، وبناء نظام دولي حر ومنفتح قائم على القواعد، مع الاضطلاع، عند الضرورة، بأدوار كانت الولايات المتحدة تلعبها في الماضي. أعتقد أن هذا واجب تركه لنا ريتشارد أرميتاج كجزء من إرثه.

(نُشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: ريتشارد أرميتاج، يوليو/ تموز 2015. © جيجي برس/ وكالة أخبار أفلو)

اليابان اقتصاد سياسة تحالف