وصفة الطعام الممتع

قهوة دايبو: أسطورة يابانية!

مجتمع ثقافة

لقد كان مقهى دايبو على مدى ما يقارب الأربعة عقود الصرح الذي يميز أوموته ساندو، وهنا يتحدث المالك دايبو كاتسوجي عن جاذبية القهوة وطريقته المميزة في إعدادها.

عودة الأسطورة من جديد... لفترة محدودة

على مدار عقود كان مقهى دايبو من أشهر المقاهي في طوكيو. ويقع على مرمى حجر من مفترق الطرق الرئيسي في أوموته ساندو، حيث يشغل مكاناً مهماً بين محلات الأزياء العديدة والمطاعم والحانات الراقية في الحي. ويدير المالك دايبو كاتسوجي المقهى من وراء منضدة من الخشب الصلب أين يحضر كل فنجان قهوة بنفسه مستخدماً قطعة قماش من أجل التقطير وحبوب القهوة التي قام بتحميصها بنفسه. أجواء القهوة الهادئة وما يميزها من إضاءة خافتة ساعدت على جذب العديد من الزبائن الأوفياء مثل موراكامي هاروكي وغيره من المثقفين الكبار. لقد كان للمقهى شهرة لا مثيل لها لكنه أغلق أبوابه عام 2013 بعد 38 عاماً من العمل بقرار من المالك بهدم المبنى من أجل إعادة إعماره.

ويذكر أنه خلال هذا الربيع قام متجر سانيودو لبيع الكتب الذي يقع مقابل موقع المقهى السابق بتنظيم فعالية خاصة حضرها عشاق القهوة وقد كانت فرصة للاحتفال بنشر مجموعة من المقالات التي قام السيد دايبو بكتابتها تحت عنوان دايبو كوهيتن نو مانيورو ”دليل مقهى دايبو“ وبهذا فقد قام متجر الكتب بإعادة الحياة للقهوة مرة أخرى ليومين فقط.

وقد حضر الفعالية أكثر من 100 شخص من عشاق القهوة من كل أنحاء اليابان خلال ذلك اليومين، بما في ذلك الزبائن القدامى وبعض المتحمسين لتذوق المشروب الأسطوري. الأمر الذي أثار دهشة موظفي متجر الكتب وعلى وجه التحديد عدد الشباب المصطفين من أجل شراء نسخة من الكتاب رغم سعره الذي يعتبر باهظاً نوعاً ما، فما السر الذي يميز قهوة دايبو ويستحوذ على إعجاب هذا العدد من الناس؟

قطرة واحدة  في كل مرة

ولقد كان الحدث فرصة لمشاهدة تقنية صانع القهوة الأسطوري عن قرب، أين وقف دايبو بهدوء خلف المنضدة في قاعة المناسبات المخصصة في الطابق الثالث للمتجر، كان منتصباً وكأنه تمثال يحضر بشكل حذر ودقيق كل كوب من القهوة مستخدماً طريقته اليدوية المميزة في التقطير، فبمجرد وصول طلب ما يقوم بطحن كمية قليلة من القهوة التي قام بتحميصها جيداً مستخدماً طاحونة صلبة حيث تفوح رائحة ناعمة من القهوة في أرجاء الغرفة بمجرد تدوير مقبض الطاحونة، وبانحناء جسده قليلاً إلى الأمام يقوم بسكب الماء الساخن مثبتاً نظره على عملية التقطير أين تنزل قطرات القهوة من القمع ببطء، ممسكاُ بالوعاء بيده اليمنى بينما يقوم برفع وخفض قطعة القماش التي يستخدمها للتقطير بيده اليسرى، مع القيام بحركات دائرية بسيطة بمعصمه تنزل قطرات الماء بدءاً من المركز والتحرك ببطء إلى الخارج في شكل دائري.

دايبو وهو يحضر كوب قهوة خلال فعالية أوموتي ساندو.
دايبو وهو يحضر كوب قهوة خلال فعالية أوموتي ساندو.

لقد كان لانكباب دايبو وتفانيه ومهارة حركاته تأثيراً جميلاً، إضافةً إلى خبرته وتقنيته الخاصة به ومعرفته التي تكونت على مدار سنوات الفضل في تقديم أطيب قهوة على الاطلاق؛ فتحضير كل كوب قهوة يحتاج حوالي خمسة دقائق من الزمن وهو وقت طويل في أيامنا هذه.

كما أن لحركات دايبو الدقيقة والرعاية التي يوليها لكل تفصيل صغير تأثيراً مهدءاً ومريحاً على من يراقب مراحل صنع القهوة.

فأول رشفة من القهوة الطازجة تتتسبب بمرارة في اللسان مع حلاوة خفيفة كلاهما يخلفان دفءً غريباً لكنه ناعم ينتشر ببطء في كامل أنحاء الجسد. 

يستخدم دايبو 25 غراماً من البن لكل فنجان وهو مقدار ما يزيد عن ضعف الكمية النموذجية المتعارف عليها، ويقدم مشروبه هذا في كوب ذو سعة تقدر ب50 سل.
يستخدم دايبو 25 غراماً من البن لكل فنجان وهو مقدار ما يزيد عن ضعف الكمية النموذجية المتعارف عليها، ويقدم مشروبه هذا في كوب ذو سعة تقدر ب50 سل.

مناخ من الجدية المعدية

على الرغم من أن المقهى أٌغلق منذ خمسة أعوام إلا أن السيد دايبو مازال يطحن قهوته بنفسه ببيته حتى لو لم يكن الأمر يومياً.  فالمنضدة التي كانت تحتل وسط مقهاه بأوموته ساندو أصبحت تزين اليوم غرفته المخصصة للقهوة ببيته أين يستقبل أصدقاءه. ولقد قام باستقبالنا بكل حب في صومعته من أجل الدردشة حول الأيام الخوالي والمناخ المميز الذي كان يعرفه المقهى سابقاً وسط جو تنسيق الورود وصوت موسيقى الجاز الهادئة.

يقول دايبو أنه كان يريد أن يجعل من المقهى مكاناً يستطيع فيه الناس نزع دروعهم والاسترخاء وأن يتعاملوا بكل أريحية ويكونوا على طبيعتهم وهذا كان يستدعي توفير قهوة ممتازة، فكوب القهوة الجيد يساعد الناس على الاسترخاء.

ويؤكد دايبو على اكتمال تجربة القهوة قائلاً عندما أقف خلف المنضدة وأراقب كل قطرة بتركيز وانتباه حينها فقط اشعر بنفسي، أعتقد أن الأمر قد أثر على الزبائن أيضاً مما ساعدهم على الاسترخاء والعودة إلى أنفسهم هم أيضاُ، فاحترام عملية التقطير والتركيز العميق سلوكيات معدية.

 دايبو في بيته.
دايبو في بيته.

ويروي دايبو قصة فتاة مراهقة ذات شعر مصبوغ باللون الأصفر الفاتح عندما دخلت ذات يوم بمفردها إلى المقهى، وجلست بمحاذاة المنضدة بمجرد أن فتح المقهى أبوابه على الساعة التاسعة صباحاً، شربت فنجان قهوة واحداً وجلست صامتةً مركزةً اهتمامها على المنضدة، مما دفع دايبو لاتخاذ قرار السماح لها بتحضير القهوة للزبائن الآخرين.

وبعد حوالي أربع ساعات تكلمت أخيراً، حيث أخبرت دايبو أنها فرت من البيت في اليوم السابق وقامت بصبغ شعرها، والتفرج عليه وهو يحضر القهوة ساعدها على الهدوء وهي تعتقد الآن أنه عليها العودة إلى البيت. وقد وافقها دايبو على أن العودة إلى البيت كان أفضل قرار، ناصحاً إياها أنه إذا كانت فعلاً تريد ترك البيت يجب عليها على الأقل العودة والتحدث في الأمر مع والديها مسبقاً.

ويضيف أنها كانت غارقة في التفكير طيلة الوقت، ثم يقول: أعتقد أنه بمجرد أن نقرر التوقف عن التفكير والاسترخاء مع كوب قهوة فإننا فعلاً يمكن ان نعرف طعم ومتعة ما وصلنا إليه في حياتنا.

ويفسر دايبو الأمر بأن الناس بحاجة إلى مكان يستريحون فيه من مشاغل الحياة والتفكير فيما وصلوا إليه وإلى أين يريدون الوصول، ثم يضيف قائلاً أنه هناك كل أنواع الأماكن أين يمكن للناس أخذ وقتهم للتفكير، فلطالما آمنت أنه لابد أن يأخذ المقهى دوراً في حياة الناس من أجل مساعدتهم على ذلك.

مكان للراحة والاسترخاء في قلب المدينة

لقد كان مقهى دايبو موجوداً بالطابق الثاني من مبنى مستأجر متعدد النشاطات. وللولوج إلى المقهى وجب المرور بسلالم مظلمة وضيقة ثم العبور عبر باب ضخم يقود إلى المبنى مروراً بمحل لتنسيق الأزهار الموسمية وهي الطفرة الوحيدة من الألوان التي تخالف السواد الذي يسيطر على الداخل. فقد كان المكان ملجأً هادئاً للهروب من ضجيج المدينة وغالباً ما كان يكسر هذا الهدوء صوت موسيقى الجاز المنبعثة من الخلف، مع رائحة القهوة القوية التي تخيم على كل المكان.

عند الساعة السابعة من صباح كل يوم يبدأ دايبو بتحميص القهوة مستخدما آلة يدوية، أين يستمر في تدوير مقبض تلك الآلة لمدة ثلاث ساعات وفي بعض الأحيان لأكثر من ذلك خصوصاً عندما يكون المقهى مزدحماً بالزبائن، ويستمر في التحميص حتى بعد أن يفتح المقهى عند الساعة التاسعة ويقوم بذلك أمام زبائنه بينما يحضر أكواب القهوة لهم. حتى إن بعض الزبائن المنتظمين يمازحونه قائلين أنهم عندما يقررون الهروب من العمل من أجل أخذ راحة سريعة فإن رائحة القهوة القوية التي تبقى عالقة بملابسهم تشي بهم عن المكان الذي كانوا به.

يقدم دايبو قهوته في خمسة نسب مختلفة من التحميص تتراوح بين 25 غراماً من البن في 50 سل من الماء و15 غراماً في 150 سل. وبغض النظر عن توازن المياه والبن إلا أنه يقدم فنجان قهوة فاخر مقارنةً بالقهوة التقليدية.

ويعرف عن دايبو أنه نادراً ما كان يتكلم عندما كان يحضر القهوة، ليس لكونه فظاً أو غير مرحب بزبائنه بل لأنه كان يفضل التركيز وهو يسكب الماء فوق البن. فعند دخول أي زبون إلى المقهى يلتفت إليه مرحباً به بكلمات هادئة قبل السماح لهم بالغوص في الجو الهادىء والاستجمام والاستراحة من صخب وضجيج المدينة.

مصدر إلهام لقهوة الموجة الثالثة

في ربيع 2015 قام مقهى بلو باتل ”القنينة الزرقاء“ وهي سلسلة من المقاهي الخاصة مركزها بسان فرانسيسكو، بافتتاح أول فرع له بطوكيو بمنطقة كيوسومي شيراكاوا. فعلى الرغم من أن المشروع يعتمد على بعض الآلات إلا أن أسلوبه المبتكر الذي يعتمد على القهوة المحمصة لكل كوب على حدى قد أصبح ظاهرة في الولايات المتحدة الأمريكية وقد ساعد على ظهور ما يٌعرف بقهوة الموجة الثالثة. واستحوذ هذا الأسلوب الجديد على خيال الشباب المهتمين بالموضة، كما أصبحت محل اهتمام عند الخبراء من محبي القهوة ذات الخصائص المميزة. وبالعودة إلى عام 2007 قام مؤسس القنينة الزرقاء جيمس فريمان بزيارة العديد من أشهر المقاهي في اليابان وقد كان مأخوذا بطريقة تحضير القهوة عن طريق التقطير، ليقوم بنقل هذه التقنية إلى مقهاه بأمريكا لتصبح إحدى الخصائص التي تميز أسلوب قهوة الموجة الثالثة. ويذكر أن مقهى دايبو كان المفضل له في اليابان.

في عام 2014 قام براندون لوبر وهو منتج أفلام حر من الساحل الغربي باعداد فيلم عن القهوة، وهو فيلم وثائقي يدرس خط إنتاج قهوة الموجة الثالثة وبقية أنواع القهوة المميزة. وفيلم آخر طويل مكون من مشاهد تصور مقهى دايبو بأوموته ساندو من الداخل وهو في أوج تألقه ليكون كتوثيق للأجيال القادمة.

مقهى دايبو كوهيتن القديم من فيلم عن القهوة 2014.’الصورة من أفوكادو وجوز الهند.
مقهى دايبو كوهيتن القديم من فيلم عن القهوة 2014.’الصورة من أفوكادو وجوز الهند.

الابقاء على الأسطورة حية

تعتبر طوكيو المعاصرة موطناً لمجموعة مذهلة من متاجر القهوة، كسلسلة المقاهي الأجنبية التي تنافس نظيرتها اليابانية’ كما أن المتاجر التي تعمل بدوام 24 ساعة تفتخر بامتلاك ماكينات لإعداد قهوة يتم تحميصها فوراً لصناعة قهوة طازجة بملبغ يصل إلى 100 ين فقط.

وعلى الرغم من أن مقهى دايبو لم يعد له وجود إلا أن دايبو نفسه مازال معطاءً فهو كثير السفر عبر أنحاء اليابان لإلقاء محاضرات عن تقنيات تحميص وطحن القهوة أو للظهور بمتاجر بوب-آب ”وهي متاجر موسمية مؤقتتة الوجود“، كما أن القهوة التي كان يحضرها في ورشات العمل المخصصة لعشاق القهوة ومتعاملي المحلات المميزة كانت تباع أغلبها دائماً بشكل سريع وهذا دليل على استمرارية تأثير أسلوب دايبو المميز في إعداد القهوة.

نشر النص الأصلي باللغة اليابانية وهو مستوحى من لقاء أجرته nippon.com. صورة العنوان: دايبو كاتسوجي وزوجته يحضران القهوة بمتجر سانيودو للكتب بمنطقة أوموته ساندو. كل الصور من تصوير دوي إمي)

قهوة الكومبيني اقتصاد قهوة