استكشاف التاريخ الياباني

تفسير دستور ميجي بين الديمقراطية والنزعة العسكرية

تاريخ اليابان

منح دستور ميجي الذي صدر عام 1889 المواطنين الكثير من الحريات وساعد في دعم عصر جديد من السياسات الحزبية، على الرغم من أنه كان يتمحور حول سلطة إمبراطورية قوية. ولكن مع صعود النزعة العسكرية في ثلاثينات القرن الماضي، أصبحت تفسيرات الدستور المناوئة للديمقراطية هي السائدة.

اليابانيون يتلقون دستور ميجي بالحفاوة

تمت صياغة دستور ميجي على طراز دستور مقاطعة بروسيا الألمانية، وكان يتمحور حول سلطة إمبراطورية قوية. فالإمبراطور كان قادرا على اتخاذ قرارات الحرب والسلام والقرارات المتعلقة بأعضاء الحكومة وقيادة كل من الجيش والبحرية. وتنص المادة الأولى من الدستور على أن ”إمبراطورية اليابان يجب أن يحكمها ويديرها سلالة من الأباطرة غير منقطعة لعصور أزلية“، بينما تنص المادة الثالثة على أن ”الإمبراطور مقدس ومعصوم“.

منح الدستور الإمبراطور ميجي قدرا كبيرا من السلطة (© جيجي برس)
منح الدستور الإمبراطور ميجي قدرا كبيرا من السلطة (© جيجي برس)

قوبل نبأ صدور أول دستور لليابان في 11 فبراير/شباط عام 1889 بابتهاج من قبل الجماهير. فقد امتلأت شوارع طوكيو بعربات المهرجانات، وزُينت بأعلام البلاد والفوانيس والزهور، بينما تجمهر الناس هاتفين ”بانزاي!“. نفدت الأعلام من الكثير من المتاجر، كما شهدت تجارة الفوانيس انتعاشا، حيث كان الحرفيون يعملون طوال الليل لإنتاج مخزون جديد. ولم يكترث المشترون المتحمسون لارتفاع الأسعار. كما تحسنت أعمال المطاعم وبيوت الغييشا.

دونّ الدكتور إروين فون بيرتس – طبيب ألماني عمل مستشارا للحكومة اليابانية – في إحدى مذكراته أن ”الناس يُحدثون ضجة كبيرة، لكنها حقيقة سخيفة ألا يعلم أحد ما سيكون في الواقع مسطّرا في الدستور“.

صورة لحفل إصدار دستور ميجي في 11 فبراير/شباط عام 1889 (© كيودو)
صورة لحفل إصدار دستور ميجي في 11 فبراير/شباط عام 1889 (© كيودو)

تركيز السلطة بيد رئاسة الوزراء

إلى جانب رد فعل المواطنين العاديين، كان هناك القليل من التذمر غير المتوقع من نشطاء ذوي شعبية كانوا ينتقدون الحكومة لعدم منحها حريات فردية. ربما كان هذا لأن الدستور كان أكثر ديمقراطية مما كانوا يتوقعون.

وفي حين أن الدستور كان يتمحور حول سلطة إمبراطورية قوية، إلا أنه منح المواطنين حرية المعتقد الديني والكلام والنشر وحرية عقد اجتماعات وتشكيل جمعيات والعيش حيث يحلو لهم، ضمن حدود القانون. كما كان لهم الحق في إجراء مراسلات بسرية والحق في الملكية الخاصة.

مُنح القضاء استقلالا عن السلطة التنفيذية بهدف الفصل الواضح بين الفروع الثلاثة للحكومة، كما شُكّل برلمان إمبراطوري يتمتع بسلطة دراسة مشاريع القوانين والميزانيات. يمكن لمجلس النواب – المكون من أعضاء منتخبين – اقتراح قوانين ومناقشة الميزانيات وذلك للمرة الأولى. وهذا ما مهد الطريق أمام المشاركة السياسية الشعبية.

ومن المعتقد أن إيتو هيروبومي الذي لعب دورا محوريا في صياغة الدستور، كان له تأثير كبير في هذه المجالات.

تحرك إيتو لتركيز السلطة التنفيذية في يد مجلس الوزراء، والحد من سلطة الإمبراطور. وصرح في المجلس الإمبراطوري الخاص خلال مناقشات حول طبيعة الدستور: ”من المهم في النظام السياسي الدستوري وضع حد للسلطة السيادية وحماية حقوق المواطنين“. من المرجح أنه كان يدرك حاجة اليابان في المستقبل القريب لسياسات حزبية تستند إلى ديمقراطية برلمانية. أسس إيتو نفسه الحزب السياسي ”ريكّين سيئيوكاي (أصدقاء الحكومة الدستورية)“ في عام 1900، وكان رئيسه خلال ولايته الرابعة كرئيس للوزراء.

وبالتالي على الرغم من أنه كان يُنظر إلى دستور ميجي أحيانا على أنه غير ديمقراطي، بناء على التأكيد على السلطات الإمبراطورية الاستبدادية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك. ويمكن تفسيره باعتباره وثيقة ديمقراطية للغاية. لا بد وأن إيتو أدرك هذه الخاصية.

الإمبراطور عضو في الدولة

تتجلى النظرة الديمقراطية لدستور ميجي في ”تينّو كيكان سيتسو (نظرية الإمبراطور أحد أعضاء الدولة)“، والتي دعا إليها البروفيسور مينوبي تاتسوكيتشي من جامعة طوكيو الإمبراطورية في أوائل القرن العشرين. تعتبر هذه النظرية الدولة كشخص اعتباري يتمتع بالسيادة، والإمبراطور هو العضو الأسمى الذي يعمل بموجب الدستور.

وبعبارة أخرى، كان مينوبي يرى الدولة على أنها تجمع للعديد من الأشخاص الذين يتشاركون نفس الأهداف. وعلى اعتبار أن الإمبراطور وأعضاء البرلمان والمواطنين العاديين كانوا مجموعة تربطهم تلك الأهداف المشتركة، فإن الإمبراطور باعتباره العضو الأسمى في الدولة يجب أن يدير السياسة لهذه المجموعة ككل.

وبالتالي كان مينوبي يعارض الحكم الاستبدادي حيث يقمع الإمبراطور حقوق المواطنين ويطالبهم بالطاعة الكاملة، وكان بدلا من ذلك يفضل وجود حكومات حزبية.

مينوبي تاتسوكيتشي يناقش الدستور في منزله بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 23 يناير/كانون الثاني عام 1946 (© كيودو)
مينوبي تاتسوكيتشي يناقش الدستور في منزله بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 23 يناير/كانون الثاني عام 1946 (© كيودو)

ولكن الباحث القانوني أويسوغي شينكيتشي من جامعة طوكيو الإمبراطورية أيضا، اعترض على تفسير مينوبي وأصر بدوره على السلطة المطلقة للإمبراطور.

ولكن نظرية ”تينّو كيكان سيتسو“ أصبحت سائدة، ما وفر الأساس النظري لنظام مجلس وزراء حزبي، وساهم بشكل كبير في استمراره خلال عشرينات القرن الماضي وحتى أوائل الثلاثينات.

خلاف حول خفض حجم القوات

شهد عام 1930 عاصفة سياسية حول قيادة الإمبراطور للقوات المسلحة كما ينص الدستور.

واعتبارا من يناير/كانون الثاني، عقدت بريطانيا مؤتمرا للقوى البحرية الرئيسية في العالم في لندن بهدف الحد من تكديس الأسلحة البحرية. وفي أبريل/نيسان وقعت اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا معاهدة تحد من حمولات السفن المساعدة (طرادات ومدمرات وغواصات).

كان إجمالي نسبة السفن المساعدة اليابانية آنذاك 69.75% من مثيلتها في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهي أعلى من نسبة 60% للبوارج وحاملات الطائرات والتي حددت في معاهدة واشنطن لعام 1922، وتقريبا عند المستوى المستهدف المتمثل في 70%. ولكن اليابان أجبرت على تقديم تنازلات لتخفض النسبة إلى 60% للطرادات الثقيلة.

يتراوح حجم الطرادات بين البوارج والمدمرات، وهي أسرع من الأولى وأقوى في المعركة وأكثر صلاحية للإبحار من الأخيرة. يمكن للطرادات الثقيلة مضاهاة البوارج، لذلك كانت هناك أصوات استياء داخل البحرية اليابانية، لكن الحكومة مضت قدما ووقعت المعاهدة. مثّل اليابان في لندن رئيس الوزراء السابق واكاتسوكي رييجيرو ووزير البحرية تاكارابي تاكيشي.

انقسمت البحرية على نفسها إلى فصيلين حول إن كان ينبغي لليابان التوقيع على المعاهدة. وتصدر مكتب الأركان العامة للبحرية معارضة التوقيع. وكان هذا المكتب هيئة تخضع للسيطرة المباشرة من قبل الإمبراطور الذي كان يشرف على الإستراتيجيات والتكتيكات البحرية في زمن الحرب.

انضم الحزب المعارض ”ريكّين سيئيوكاي“ ومحافظو مجلس الإمبراطور الخاص إلى معارضي المعاهدة، استشعارا منهم بوجود فرصة للإطاحة بالحكومة. واتفق معهم مواطنون يمينيون. هاجمت هذه المجموعات معا حكومة رئيس الوزراء هاماغوتشي أوساتشي باعتبارها تنتهك سلطة الإمبراطور.

كانت المادة 11 من الدستور تنص على أن ”للإمبراطور القيادة العليا للجيش والبحرية“. ولكن كان لمجلس الوزراء دور تقديم المشورة للإمبراطور عند تحديد حجم هذه القوات.

وهذا يعني أنه في زمن الحرب لم يكن بمقدور مجلس الوزراء إعطاء الأوامر للجيش. وإنما كان مكتبا الأركان العامة للجيش والبحرية ينفذان إستراتيجية بموافقة الإمبراطور. في غضون ذلك، يمكن لمجلس الوزراء أن يقرر بشكل فعال حجم القوات العسكرية. وبهذا المعنى، لم تكن هناك مشكلة في توقيع معاهدة لندن.

وما زاد الأمور تعقيدا أن لوائح مكتب الأركان العامة للبحرية كان تنص على أن موافقته مطلوبة لاتخاذ قرارات بشأن حجم البحرية. استخدم معارضو المعاهدة هذا للتنديد بحكومة هاماغوتشي لانتهاكها السلطة الإمبراطورية بالتوقيع دون موافقة المكتب.

تصاعد العنف السياسي

ولكن رئيس الوزراء هاماغوتشي لم يفسح المجال أمام هذه الهجمات، وواجه بحزم أولئك الذين انتقدوا المعاهدة، وأعطى الأولوية القصوى للتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا.

هيئة رئيس الوزراء هاماغوتشي أوساتشي منحته لقب ”رئيس الوزراء الأسد“ (© جيجي برس)
هيئة رئيس الوزراء هاماغوتشي أوساتشي منحته لقب ”رئيس الوزراء الأسد“ (© جيجي برس)

فاز ريكّين مينسيتو (الحزب الدستوري الديمقراطي) الحاكم بزعامة هاماغوتشي بأغلبية ساحقة في انتخابات فبراير/شباط عام 1930، ومكن حصوله على أغلبية إجمالية في المقاعد من اتخاذ موقف. كما أيدت وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي العام نزع السلاح ودعمت الحكومة.

وفي ظل هذه الظروف المواتية، نشر هاماغوتشي نظرية ”تينّو كيكان سيتسو“ لمينوبي بالإضافة إلى مناقشات أخرى لإخضاع خصومه، وهدد بإقالة رئيس ونائب رئيس المجلس الإمبراطوري الخاص. ولكن في 14 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1930 أطلق مسلح يميني النار على هاماغوتشي وأصيب بجروح خطيرة في محطة طوكيو، وتوفي في النهاية متأثرا بجراحه في أغسطس/آب التالي.

لافتة في المكان الذي تم فيه إطلاق النار على رئيس الوزراء هاماغوتشي أوساتشي في محطة طوكيو (© جيجي برس)
لافتة في المكان الذي تم فيه إطلاق النار على رئيس الوزراء هاماغوتشي أوساتشي في محطة طوكيو (© جيجي برس)

ثم أدت حادثة منشوريا في سبتمبر/أيلول عام 1931 إلى تحول في دعم الشعب للجيش. وأدى الصعود السريع للنزعة العسكرية واغتيال رئيس الوزراء إينوكاي تسويوشي في مايو/أيار عام 1932 على يد ضباط شباب من البحرية، إلى إسدال الستار على عصر السياسة الحزبية.

انتشار التفسيرات المناوئة للديمقراطية

وفي خضم هذا المناخ القومي، تعرضت نظرية ”تينّو كيكان سيتسو“ لمينوبي للانتقاد الشديد في عام 1935. فقد انتقد كيكوتشي تاكيؤ العضو في ”مجلس الأقران (بمثابة مجلس الشيوخ آنذاك)“ ذو الخلفية العسكرية، النظرية باعتبارها غير قومية، وحذا حذوه يمينيون آخرون.

كان مينوبي في ذلك الوقت أستاذا فخريا في جامعة طوكيو الإمبراطورية، وكان أيضا عضوا في مجلس الأقران، لكن الحملة التي كانت تشجب نظريته طالبت بأن يتخلى عن منصبه في المجلس وبحظر أعماله وأن يتم عزل الأكاديميين والبيروقراطيين الذين يدعمون النظرية من مناصبهم.

كانت الحكومة آنذاك برئاسة رئيس الوزراء أوكادا كييسوكي تؤيد في البداية نظرية ”تينّو كيكان سيتسو“، لكنها تراجعت تحت الضغط عندما أصبحت محورا للانتقاد. وقد حظرت كتب مينوبي وأجبر على الاستقالة.

كما أصدر أوكادا إعلانا يتنصل فيه من نظرية مينوبي باعتبارها تتعارض مع النظام الإمبراطوري ويؤكد على السلطة السيادية للإمبراطور.

ومنذ تلك المرحلة، أصبح التفسير الدستوري بأن الإمبراطور يتمتع بالسلطة العليا هو السائد، مع ظهور قراءات للدستور تشجع على نمو النزعة العسكرية.

وفي عام 1936 تصاعدت حدة الخلاف الفصائلية في الجيش بين الراديكاليين الذين دعوا إلى العمل المباشر باسم الإمبراطور وغيرهم ممن كانوا أكثر اعتدالا. وفي واقعة أصبحت تعرف باسم حادثة 26 فبراير/شباط، قاد ضباط متطرفون صغار 1400 جندي للاستيلاء على ناغاتاتشو وكاسوميغاسيكي، مركزي الحكومة والمكاتب البيروقراطية في وسط طوكيو. فقد اقتحموا المقر الرسمي لرئيس الوزراء ومنازل الوزراء والمقر الرئيسي لشرطة العاصمة، وقتلوا سايتو ماكوتو اللورد الحافظ للختم الإمبراطوري ووزير المالية تاكاهاشي كوريكييو – وكلاهما رئيس وزراء سابق – والمفتش العام للتعليم العسكري واتانابي جوتارو وآخرين.

فندق سانّو في ميناتو بطوكيو والذي أقفل أبوابه في 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1983. تأسس عام 1932 وأصبح المقر الرئيسي الذي خطط منه الضباط المتطرفون لحادثة 26 فبراير/شباط عام 1936. استخدم الفندق في فترة ما بعد الحرب كمنشأة عسكرية أمريكية (© جيجي برس)
فندق سانّو في ميناتو بطوكيو والذي أقفل أبوابه في 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1983. تأسس عام 1932 وأصبح المقر الرئيسي الذي خطط منه الضباط المتطرفون لحادثة 26 فبراير/شباط عام 1936. استخدم الفندق في فترة ما بعد الحرب كمنشأة عسكرية أمريكية (© جيجي برس)

كيتا إيكّي كاتب من سادو بمحافظة نييغاتا وكان يعتبر أن الإمبراطور فوق الدستور، وقد كان له تأثير كبير على الجماعة المتطرفة. كتب كيتا في ”نيهون كايزو هوأن تايكو (خطة تفصيلية لإعادة تنظيم اليابان)“ أنه يجب على الإمبراطور استخدام سلطته لتعليق الدستور وإعلان الأحكام العرفية وإصلاح الأمة.

سلكت اليابان مسار العسكرة لتدخل في حرب مع الصين ثم مع الولايات المتحدة لاحقا، لينتهي الطريق بالهزيمة. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أمر المقر العام للقيادة العليا لقوى الحلفاء التي كانت تحتل اليابان رئيس الوزراء شيديهارا كيجورو بتعديل الدستور بشكل جوهري لجعله أكثر ديمقراطية. ودخل دستور اليابان الحالي حيز التنفيذ في 3 مايو/أيار عام 1947 ليحل محل سلفه دستور ميجي.

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية في 2 مارس/آذار عام 2023، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: احتفال الناس بصدور دستور ميجي. وصف تقرير إخباري معاصر مشاهد في كيوتو بأنها مشابهة لمهرجان غيون. مكان وتاريخ الصورة غير محددين بالضبط. بعدسة سوزوكي شينئيتشي. الصورة بإذن من مكتبة جامعة ناغاساكي، © كيودو)

ميجي الحرب العالمية الثانية الحكومة اليابانية تاريخ اليابان الساموراي