صانعو التاريخ الياباني

”بلاء الورود“: عمل إبداعي ثمرة تعاون رائع بين الكاتب ميشيما يوكيو والمصور هوسوي إيكو

ثقافة

شهد عام 1963 تعاونا بين واحد من أبرز المصورين الشباب الواعدين في اليابان مع المؤلف الشهير ميشيما يوكيو في عمل ’’باراكيي (بلاء الورود)‘‘ وهي مجموعة رائعة من الصور الإبداعية من الناحية الفنية التي استفادت من اللياقة البدنية العالية للمؤلف لإحداث تأثير رائع وخلق إحساس عالمي.

يوافق هذا العام مرور 50 سنة على واقعة انتحار ميشيما يوكيو (1925-1970) الدرامية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970. وقد أقيمت فعاليات في جميع أنحاء العالم لإحياء ذكرى حياة المؤلف وأعماله. وعرضت في زاوية ما في معظم تلك الفعاليات صور فوتوغرافية لميشيما في وضعيات فنية التقطها هوسوي إيكو (1933 –) وكانت قد نشرت في عام 1963 تحت عنوان ’’باراكيي (بلاء الورود)‘‘ وهو أحد أكثر كتب الصور أصالة في القرن العشرين. تعرض مجموعة الصور تلك ميشيما في وضعيات متنوعة يُظهر فيها بفخر جسمه المكتنز بالعضلات ثمرة سنوات طويلة من الممارسة المتفانية لرياضة كمال الأجسام. تحتضن الصور – الملتقطة بين خريف عام 1961 وربيع عام 1962، ومعظمها في منزل الكاتب في حي ماغومي في طوكيو – صورة ميشيما الذاتية وتجعلها تنبض بالحياة في صور استخدمت فيها مجموعة متنوعة من التقنيات المتطورة لخلق عالم مذهل من الحسية المثيرة والجمال المترف. كان هوسوي يبلغ من العمر 28 عاما في ذلك الوقت، وكان أحد النجوم الصاعدين في مجال التصوير الفني الياباني.

باراكيي (بلاء الورود)، #34، عام 1961.
باراكيي (بلاء الورود)، #34، عام 1961.

رؤى فنان

حدث أول تواصل بين هوسوي وميشيما عن طريق مصمم الرقصات هيجيكاتا تاتسومي (1928–1986) مبتكر الشكل الجديد الديناميكي والثوري للرقص الحديث. كان هيجيكاتا وميشيما صديقين مقربين، وفي عام 1959 طور هيجيكاتا مقطوعة رقص مستوحاة من رواية ميشيما بعنوان ’’كينجيكي (الألوان المحرمة)‘‘. حضر هوسوي أحد العروض، وانتابته على الفور حالة من الذهول من الإمكانيات الفنية التي ينطوي عليها أسلوب الرقص الجديد المثير. وقد زار هيجيكاتا خلف الكواليس بعد الأداء، وسرعان ما أصبح يلتقط صورا لهيجيكاتا وعارضة الأزياء إيشيدا ماساكو وزملائهما الراقصين. استخدم هوسوي أجساد هؤلاء الراقصين لإعداد سلسلة من الرسوم التصويرية لـ ’’رجال ونساء، كبشر في أوضاع من الجنس الواقعي‘‘ (على حد تعبير الناقد الفوتوغرافي فوكوشيما تاتسوؤ)، في سلسلة من الصور الحية اللافتة للنظر، قوامها غير المصقول يبرز من خلال التباين الصارخ بين الأسود والأبيض. نشرت الصور على شكل كتاب عام 1961، تحت عنوان ’’أوتوكو تو أونّا (رجل وامرأة)‘‘.

رأى ميشيما هذه المجموعة وصورا أخرى لهيجيكاتا وفرقته والتي استخدمت في برامج عروض الفرقة، وأصبح مفتونا بأسلوب هوسوي. وتواصل مع هوسوي عن طريق محرره وكلفه بالتقاط سلسلة جديدة من الصور. في المرة الأولى التي التقيا فيها، قال ميشيما للمصور: ’’سأسلم نفسي لك وكأني موضوع تصويري لكاميرتك. أريدك أن تشعر بالحرية في استخدامي بالشكل الذي تراه مناسبا وأن تلتقط أي صورة توحي لك بها مخيلتك‘‘. أخذ هوسوي كلمات ميشيما على ظاهرها، وشرع في التقاط سلسلة من الصور المذهلة التي كانت أصالتها المذهلة بعيدة كل البعد عن أي نوع من تصوير المشاهير المبتذلة أو صورة الكاتب التقليدية. وفي أول جلسة تصوير عمد هوسوي إلى لف ميشيما الذي كان عاريا بخرطوم الحديقة ووضعه على أرضية رخامية تمثل لوحة فسفسائية بيضاوية الشكل للأبراج الفلكية، مع أحد طرفي الخرطوم في فمه. يقف ميشيما مع مطرقة في يده اليمنى، وينظر هوسوي إليه من على سلم بينما يحدق ميشيما بعمق في الكاميرا بنظرة يبدو أنها تحمل كل قوة جسمه العضلي.

باراكيي (بلاء الورود)، #5، عام 1961.
باراكيي (بلاء الورود)، #5، عام 1961.

أحب ميشيما هذه الصور الإبداعية والتي بدت وكأنها عصية على أي محاولة للتفسير المباشر، ووافق الرجلان على الالتقاء مرة أخرى من أجل جلسات أخرى. في جلسة التصوير الثانية وما تبقى من تعاونهما، أرسل ميشيما زوجته وأطفاله خارج المنزل قبل بدء التصوير مدعيا أن المصور الفاسد وأصدقاءه سيكون لهم ’’تأثير سيء على أخلاقهم‘‘. غالبا ما كانت الصور تتضمن عناصر من الأعمال الفنية المفضلة لميشيما مثل ’’فينوس النائمة‘‘ للرسام جورجوني من مدينة البندقية الإيطالية و ’’ولادة فينوس‘‘ للرسام ساندرو بوتيتشيلي. دعا ميشيما هيجيكاتا وفرقته إلى منزله وتصور معهم، بالإضافة إلى أخذ عدة لقطات مع الممثلة إنامي كيوكو (1942–2018). ومن حين لآخر كان المتعاونون يغادرون مقر إقامة ميشيما للتصوير في مواقع أخرى، بما في ذلك موقع بناء على أرض كنيسة مليئة بالطوب الأحمر.

 باراكيي (بلاء الورود)، #16، عام 1961.
باراكيي (بلاء الورود)، #16، عام 1961.

وبالتدريج تبلورت رؤية وصفها ميشيما بالعبارات التالية في مقدمة الصور عندما نُشرت على شكل كتاب: ’’كان العالم الذي اختُطِفت إليه تحت سحر عدساته غير طبيعي مشوها ساخرا، بشعا، متوحشا ومنحلا. . . ومع ذلك كان هناك تيار غنائي خفي واضح يهمس بلطف من خلال قنواته غير المرئية‘‘.

كان مورياما دايدو أحد الأشخاص الذين لعبوا دورا مهما في غرفة تحميض الأفلام، حيث ساعد في تحميض وطباعة الصور، وقد أصبح هو نفسه فيما بعد مصورا مشهورا. انتقل مورياما من أوساكا إلى طوكيو عام 1961 وكان يعمل كمساعد هوسوي. كان مشروع ميشيما من أولى المهمات التي تولاها. لم تكن مهمة سهلة، وتمثلت في الاستجابة للأفكار وهي تتدفق من هوسوي ومحاولة جعلها حقيقة واقعة. يتذكر مورياما الصعوبات التي واجهها في غرفة تحميض الأفلام، حيث كان عليه أن يستعين بكل مهاراته وإبداعه لطباعة صور تتناسب مع رؤية هوسوي، باستخدام نسخة مصغرة من فيلم منخفض الحساسية، ثم خفض الحساسية إلى أبعد من ذلك ودمج العديد من النيغاتيف في صورة مونتاج مركبة. اشتهر مورياما دايدو فيما بعد بمهاراته الفريدة في إنهاء وتحميض مطبوعاته. ومن الإنصاف القول إن الكثير من الأعمال الأساسية لمسيرته المهنية اللاحقة قد أرسيت خلال هذه الفترة من العمل مع هوسوي على صوره لميشيما.

باراكيي (بلاء الورود)، #29، عام 1961.
باراكيي (بلاء الورود)، #29، عام 1961.

جماليات ميشيما للحياة والموت

ظهرت أولى الصور على الغلاف والصفحة الأولى من ’’بي نو شوغيكي (الاعتداء على الجمال)‘‘ وهي مجموعة مقالات نقدية لميشيما نشرتها دار النشر ’’كودانشا‘‘ في عام 1961. ثم عُرضت في معرض ’’نون‘‘ في متجر ماتسويا في حي غينزا بطوكيو في يناير/كانون الثاني عام 1962 بتنظيم من فوكوشيما تاتسوؤ ومشاركة مصورين بارزين بمن فيهم ناراهارا إيكّو (1931–2020) وتوماتسو شوميي (1932–2012) وكاوادا كيكوجي (1933–) وإيشيموتو ياسوهيرو (1921–2012) وإيماي هيساي (1931–2009).

بعد ذلك في مارس/آذار عام 1963 نُشرت الصور في ’’باراكيي‘‘ (العنوان الإنجليزي الأصلي كان ’’مقتول بالورود‘‘ ولكن لاحقا عُدل إلى ’’بلاء الورود‘‘، وهو كتاب فاخر كبير الحجم صممه وجمعه المصمم سوغيؤرا كوهيي ( 1932–). قُدِّمت الصور في خمسة فصول هي: ’’الفصل الأول: المقدمة‘‘ و ’’الفصل الثاني: الحياة المدنية اليومية‘‘ و ’’الفصل الثالث: الساعة المحتقرة أو الشاهد الكسول‘‘ و ’’الفصل الرابع: تجديف متنوع‘‘ و ’’الفصل الخامس: بلاء الورود‘‘.

النسخة الكبيرة من باراكيي من تصميم سوغيؤرا كوهيي، وهي منشورة في عام 1963.
النسخة الكبيرة من باراكيي من تصميم سوغيؤرا كوهيي، وهي منشورة في عام 1963.

بمجرد اتخاذ قرار بنشر الصور في شكل كتاب، كتب هوسوي إلى ميشيما وطلب منه اقتراح عنوان. أجاب ميشيما بالعديد من الاقتراحات: ’’اسكتشات الاستشهاد‘‘ و ’’إنسان وأزهار‘‘ و ’’تباينات عاطفة‘‘ و ’’موت وثرثرة‘‘ و باراكيي (أو ’’بلاء الورود‘‘ (الترجمة الحرفية تعني ’’عقاب بالورود‘‘، وقد اعتمد العنوان ’’مقتول بالورود‘‘ في الطبعة الأولى). بمجرد أن رأى هوسوي هذا الاقتراح الأخير أدرك فورا أنه يجب أن يكون العنوان: لقد صدمه باعتباره تلخيصا مثاليا لقيم ميشيما الجمالية ونظرته للحياة والموت. لاقى الكتاب استحسانا كبيرا وفاز بجائزة في ذلك العام.

انتحار ميشيما يرجئ خططا لنشر نسخة معدلة

استمر هوسوي في تطوير رؤيته حيث عمل مرة أخرى مع هيجيكاتا تاتسومي على مجموعة كامايتاتشي التي سميت على اسم شيطان أسطوري يشبه ابن عرس موطنه الأصلي منطقة توهوكو الريفية حيث نشأ كلا الرجلين. أظهرت الصور التي نشرتها دار النشر غينداي شيتشوشا في عام 1969 هيجيكاتا إلى جانب السكان المحليين العاديين. لكن مجموعة ميشيما التي أعدها سابقا لم تفارق تفكير هوسوي. وفي عام 1970 تبلورت خطة لإعداد طبعة دولية جديدة من باراكيي. وقد أسندت مهمة التصميم هذه المرة إلى يوكوؤ تادانوري (1936–). بعد التشاور بين هوسوي وميشيما ويوكوؤ تقرر إجراء عدد من التغييرات المهمة على المحتوى من الصور وتصميمها. كان من المقرر أن يصدر الكتاب في نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام، ولكن كان لا بد من تأجيله لمدة شهر أو نحو ذلك عندما تعرض يوكوؤ لحادث سيارة.

عُرضت ألواح الطباعة الخاصة بالإصدار الجديد لأول مرة في معرض لأعمال ميشيما في متجر توبو متعدد الأقسام في حي إيكيبوكورو في أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام. تضمن أحد أقسام المعرض صورا مكبرة من باراكيي تحت عنوان ’’نهر من جسد‘‘. صُدم هوسوي بتعليق كتبته ميشيما للمعرض: ’’لن أقبل أبدا تحلل الجسد‘‘. وفي نفس الوقت تقريبا، سلم ميشيما مخطوطة لمقدمة كان قد وعد بكتابتها لمجموعة التصوير الفوتوغرافي لهوسوي بعنوان ’’هويو (الاعتناق)‘‘ قبل الموعد المحدد بوقت طويل، وهو أمر كان أيضا خارجا عن المألوف.

على الرغم من تلك المؤشرات المبكرة إلا أن انتحار ميشيما الدرامي عن طريق طقوس سيبّوكو أو تقطيع الأحشاء في مقر قوات الدفاع الذاتي في إيتشيغايا في 25 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970 كان بمثابة صدمة كبيرة. علق هوسوي على الفور العمل على الطبعة الجديدة من كتابه، فهو ببساطة لم يكن يعرف كيف ستتلقى وسائل الإعلام الصور التي التقطها لميشيما في خضم حالة الفوضى بعد وفاة الكاتب. لكن السبب الأكبر كان يتعلق بكبريائه: لم يكن يريد أي شخص أن يعتقد أنه كان ’’يحقق منافع مادية‘‘ من وفاة ميشيما عن طريق نشر كتاب صور من المؤكد أنه سيثير الجدل بعد وقت قصير من انتحار الكاتب.

لكن مكالمة هاتفية من يوكو زوجة ميشيما أقنعته بتغيير رأيه. ’’آمل أن تمضي قدما في خطط نشر الطبعة الجديدة من الكتاب. كان زوجي يتطلع إلى ذلك كثيرا‘‘. بعد تغيير سريع في الخطة خرجت النسخة الجديدة من باراكيي إلى النور في النهاية. تم نشر الطبعة الدولية من ’’باراكيي (بلاء الورود)‘‘ من قبل دار النشر شويئيشا الدولية في يناير/كانون الثاني عام 1971.

النسخة الجديدة من باراكيي وهي من تصميم يوكوؤ تادانوري وتم نشرها في عام 1971. عند فتح الصندوق الذي يحتوي على مجموعة الصور تظهر صورة لميشيما متأثرة بالبوذية على الطراز الهندي.
النسخة الجديدة من باراكيي وهي من تصميم يوكوؤ تادانوري وتم نشرها في عام 1971. عند فتح الصندوق الذي يحتوي على مجموعة الصور تظهر صورة لميشيما متأثرة بالبوذية على الطراز الهندي.

تعاون بين فنانين صعبي المراس

إذا نظرنا إلى باراكيي من جديد بعد كل هذه السنوات، فإننا نتذكر كيف كان الكتاب خاصا ومميزا. الغلاف الانزلاقي للنسخة الأصلية ينسب الكتاب إلى ’’هوسوي إيكو: صور فوتوغرافية، ميشيما يوكيو: الموضوع والمقدمة‘‘. كانت الرسالة واضحة: كان العمل تعاونا بين فنانين في علاقة قائمة على المساواة.

من المؤكد أن ميشيما أوفى بوعده بأن يصبح ’’موضوعا‘‘ لصور هوسوي. لكنه حافظ على حضور قوي يتعذر إلغاؤه طوال جلسات التصوير: في منزله المشبع بإحساس جمالي مميز لصاحبه حيث تتوزع قطع الأثاث والتجهيزات التي اختارها ميشيما بنفسه، وبينما كان يزهو ببنيته العضلية المتناسقة التي كان يفتخر بها كثيرا، كان لدى ميشيما شيئا من مظهر نمر جاسٍ يتجول في مناطق نفوذه. رفض هوسوي التراجع أمام هذه الشخصية الكاريزمية المهيمنة وحافظ على فرديته ورؤيته كمصور في مواجهة أحد الكتاب المهيمنين في عصره، حيث كان يتلاعب به ويسيطر عليه تماما كما يريد باعتباره راقصا أو لاعب كمال أجسام أو أي شخص آخر. والنتيجة كانت تعاونا تنافسيا بين اثنتين من الحساسيات الفنية الموهوبة، فالكاتب والمصور انخرطا في مصارعة فنية كل منهما يرفض الانصياع للآخر. تظل هذه المجموعة الرائعة من الصور شهادة مناسبة على نزاهة ورؤية فنانين يفخران باستقلالهما.

(النص الأصلي باللغة نشر اليابانية بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2020. الترجمة من الإنكليزية. جميع الصور الفوتوغرافية من تصوير هوسوي إيكو. الشكر موصول لمكتب هوسوي إيكو. صورة العنوان: باراكيي (بلاء الورود)، #32، عام 1961)

ميجي الأدب الثقافة الشعبية الثقافة التقليدية