البوذية في اليابان

نشأة البوذية الباطنية وعلاقتها بالبلاط الإمبراطوري الياباني

ثقافة

وصلت تعاليم البوذية الباطنية إلى اليابان قادمة من الصين في نهاية القرن الثامن، وسرعان ما وجدت لها تأييدا داخل البلاط الإمبراطوري. وقد تعايشت على مدى القرون التالية المدرستان الرئيسيتان للبوذية الباطنية كمنافستين، وكلتاهما كانت متجذرة بعمق في هياكل سلطة الدولة وطبقة النبلاء.

الافتقار لنظام فلسفي شامل

كما تعرفنا في الجزء السابق من هذه السلسلة فقد نجحت اليابان في القرن الثامن أخيرا في استيراد العناصر الثلاثة التي احتاجتها لتعتبر رسميا دولة بوذية وهي: الصور البوذية و ’’دارما (القانون)‘‘ و ’’سانغا (مجتمع الرهبان)‘‘. لكن هذا لم يكن مماثلا لاستيراد العقائد والتعليمات الدينية التي علمها بوذا التاريخي شاكياموني في الهند قبل قرون. أدى ظهور كتب بوذية ماهايانا المقدسة الجديدة إلى ولادة مجموعة تثير الدهشة من تماثيل مختلفة لبوذا وبوداسف (شخص لديه رغبة شديدة في تحقيق البوذية لجميع الكائنات). تم التعامل مع هذه الأشياء على أنها أشياء للعبادة ونسب لها قوى غامضة مماثلة لقوى كامي من تقاليد الشنتو الأصلية في اليابان. حظي الكهنة البوذيون بالتبجيل باعتبارهم شخصيات لها قوة في عمل التعويذات واستخدامها مع الطقوس لاستحضار القوى السحرية لبوذا. وداخل مجتمع الكهنة في اليابان –على خلاف ما كان الوضع عليه في البوذية المبكرة– لم يكن هناك أي أثر يذكر لمجتمع الرهبان ’’سانغا‘‘ الذين كانوا يكرسون حياتهم للممارسات الروحية بهدف التجرد من رغباتهم الزائفة وتحرير أنفسهم من المعاناة.

أنشأ البلاط من العاصمة نارا مدارس وعيّن رهبانا لدراسة العقائد البوذية والكتب المقدسة من أجل نشر التعاليم على نطاق واسع والاستفادة من القوى السحرية للدين لحماية الدولة. قُسّمت فلسفات وقواعد البوذية إلى 6 مجالات وتم تدريسها بشكل منفصل. وكان من المعتقد أن إتقان هذه العقائد الغامضة يشكل دليلا على أن الطلاب يمتلكون القدرات الخاصة التي يحتاجونها ككهنة بوذيين. أطلق على مجالات الدراسة الستة تلك أسماء ’’سانرون‘‘ و ’’جوجيتسو‘‘ و ’’هوسّو‘‘ و ’’كوشا‘‘ و ’’كيغون‘‘ و ’’ريتسو‘‘. تختص كل منها بمجالات معينة من التعاليم البوذية الغامضة. وأصبحت هذه المجالات الستة فيما بعد تعرف باسم المدارس الجنوبية الست. لكن تلك المدارس الأكاديمية كانت تدرس منهجا مصمما لتدريب الكهنة وتمكينهم من الحصول على مؤهلات معترف بها من قبل الدولة. ولم تكن نظاما فلسفيا شاملا من شأنه أن يعطي تصورا شاملا للبوذية ككل. وكانت اليابان في هذه المرحلة لا تزال تفتقر إلى إطار فلسفي لفهم الجوهر الحقيقي والامتداد الكامل للبوذية من منظور شامل.

مدرسة تينداي وسوترا زهرة اللوتس

استمر هذا الوضع حتى نهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع، في الوقت الذي تم فيه نقل العاصمة إلى موقع جديد فيما يعرف اليوم بكيوتو. في غضون ذلك الوقت تقريبا، نقل رهبان كانوا قد سافروا مع بعثات إلى الصين في عهد سلالة تانغ لدراسة أحدث المعارف فيها، نقلوا إلى اليابان فلسفتين جديدتين بدا أنهما تلخصان التعاليم البوذية. الأولى هي بوذية ’’تينداي (تينتاي باللغة الصينية)‘‘ التي أدخلها إلى اليابان سايتشو (762-822)، والثانية كانت بوذية ’’شينغون‘‘ التي نقلها كوكاي (774-835). وقد شكلت هاتان المدرستان معا جوهر البوذية اليابانية على مدار عدة قرون قادمة.

مثلت مدرسة تينداي الشكل الأكثر تقدما للفلسفة البوذية في ذلك الوقت. فقد ضمت جميع الأشكال المتنوعة للأفكار البوذية التي انتقلت إلى الصين من الهند عبر سلسلة طويلة من التبادلات منذ القرن الأول من العصر المسيحي. في الوقت نفسه وعلى عكس المدارس السابقة، أنشأت مدرسة تينداي سلسلة معقدة من العلاقات المنطقية بين هذه العقائد المختلفة، وسعت إلى الوصول إلى فهم شامل للعالم البوذي الواسع ككل. وبالطبع لأن هذه الأفكار المتباينة من ابتكار أشخاص مختلفين عاشوا في الهند في أزمنة مختلفة، لم تكن هناك أية طريقة واضحة لدمجها في كلٍ متماسك. ولم تكن تمُت لبعضها البعض بصلة بأي معنى حقيقي. لكن هذا لم يثنِ مدرسة تينداي عن استخدام كل المنطق والحجج المتاحة لها لتوحيد تلك الأفكار. وفي ذروة فهم تينداي للبوذية ظهرت سوترا زهرة اللوتس. كانت تينداي مدرسة صينية ولدت من رحم التاريخ المميز للبوذية في شرق آسيا. أدرجت جميع نصوص السوترا المختلفة في تسلسل هرمي منهجي للنصوص، مع اعتبار سوترا زهرة اللوتس النص الأكثر تبجيلا على الإطلاق.

تم تبني هذه التعاليم الجديدة بمجرد أن قام سايتشو بتقديمها وتعليمها بطريقة منهجية. وأخيرا كُشف النقاب عن العالم البوذي الواسع بكل عظمته –بعد أن كان الناس في اليابان لا يرونه إلا في شكل مجزأ حتى تلك اللحظة– في شكل يمكن فهمه كنظام واحد متماسك.

التعاليم العليا

بعد ذلك بفترة وجيزة عاد كوكاي من الصين حاملا معه مجموعة جديدة من العقائد التي شكلت الأساس لمدرسة ’’شينغون (مانترا)‘‘. وعلى خلاف تعاليم تينداي، لم تكن عقائد شينغون تراكما لعقائد سابقة. بل كانت تفسيرا جديدا للبوذية، يُعرف بالبوذية الباطنية (ميكّيو أو ’’التعاليم السرية‘‘ باللغة اليابانية). ومثّلت هذه المدرسة المرحلة الأخيرة من تطور البوذية في الهند فهي مبنية على أساس مجموعة جديدة من كتب التانترا المقدسة. شكل ظهورها تتويجا لعملية تاريخية طويلة تطور فيها الدين وتغير عن طريق دمج تعاليم سابقة والتفوق عليها. وكثمرة نهائية لهذه العملية، قُدّمت البوذية الباطنية كشكل يمتلك قوة روحية عليا ويحتل مكانة في ذروة التفكير البوذي الذي كان موجودا في الماضي.

تنص التعاليم البوذية الأصلية لشاكياموني على وجوب أن ينظر الشخص إلى داخله ويغير حياته ومصيره من خلال جهوده الخاصة. ولم تكن هناك طريقة أخرى في عالم كان شاكياموني يعتقد بعدم وجود منقذ خارجي فيه. ولكن خلال القرون التي تلت ذلك –عندما تصدرت بوذية ماهايانا– أصبحت هذه التعاليم الأصلية مغطاة بتراكم من معتقدات غامضة وفكر سحري. أما في البوذية الباطنية –التي مثّلت المرحلة الأخيرة من هذه العملية– فقد تبدلت التعاليم بشدة لدرجة أنها أصبحت تقول إن بإمكان المرء أن يصبح بوذا بمجرد إدراك ارتباطه بالطاقة الأساسية للكون. وبات بالكاد يمكن تمييز تلك التعاليم عن الهندوسية. كانت تلك المذاهب يكتنفها الغموض والسرية، ولا يمكن إفشاء الأسرار العميقة إلا للأفراد الذين أكملوا اختبارات معينة أو خضعوا لطقوس تلقين خاصة. وساد اعتقاد بأن تجربة الاتحاد مع طاقة الكون كانت شيئا لا يمكن التعبير عنه أو وصفه بالكلمات.

جلب كوكاي البوذية الباطنية إلى اليابان ككل متكامل باعتبارها نظاما فكريا قويا واحدا. في حين أن البوذية اليابانية كانت حتى ذلك الوقت مزيجا من ممارسات وطقوس مستوردة تحظى أساسا بالتقدير بسبب قواها الروحية الشبيهة بالسحر. جاءت البوذية الباطنية كإلهام، وهي النسخة الأكثر عمقا وقوة من التعاليم التي عرفها أي شخص في اليابان حتى ذلك الوقت. يبدو أيضا أنها أكثر تماسكا من تعاليم مدرسة تينداي التي حاولت الجمع بين تعاليم مختلفة وتقديمها ككل موحد. وحتى أتباع سايتشو شعروا بذلك، وشرعوا في إضافة عناصر من أحدث التعاليم الباطنية إلى معتقدات تينداي التي يؤمنون بها، بحيث اتخذت تعاليم تينداي أيضا تدريجيا مظهر البوذية الباطنية.

وبهذه الطريقة ظهر شكلان مختلفان من البوذية الباطنية في اليابان جنبا إلى جنب: طائفة تينداي التي أضفت صبغة خفية إلى حد ما لمزيج من تعاليم مختلفة من مجموعة متنوعة من المدارس السابقة، وطائفة شينغون التي جلبت التعاليم الباطنية لليابان ككل موحد.

المؤسس المعبد الرئيسي التعاليم
تينداي
سايتشو إنرياكوجي، جبل هيئي (بين كيوتو وأوتسو، محافظة شيغا) جميع نصوص السوترا منسقة في تسلسل هرمي تحتل سوترا زهرة اللوتس القمة فيه.
شينغون
كوكاي كونغوبوجي، كوياسان (محافظة واكاياما) المرحلة النهائية من التطور التاريخي للبوذية في الهند. يسعى أتباع هذه الطائفة للاتحاد مع طاقة الكون.

هياكل الطبقات الدينية والتكيف مع السلطة السياسية

من المهم تذكر أن اليابانيين في ذلك الوقت لم يكونوا على دراية بالتغيرات التي طرأت على البوذية مع مرور الوقت. فنظرا لأن جميع الكتب البوذية المقدسة التي نُقلت إلى اليابان كانت تعتبر بأنها كلمات بوذا، فقد كان يُنظر إليها جميعا على أنها أجزاء شرعية من التعاليم، على الرغم من الاتفاق على وجود بعض الاختلافات العميقة فيما بينها. وتباينت أجوبة المدارس المختلفة على سؤال فحواه: ’’من بين جميع الكتب المقدسة، ما هو الأفضل تمثيلا للرسالة التي أراد بوذا إيصالها؟‘‘. كان رد طائفة تينداي هي سوترا زهرة اللوتس (باللغة اليابانية ’’ميوهو رينغي-كيو‘‘ أو ’’هوكيكيو‘‘، مفسرة بطريقة باطنية). أما بالنسبة لشينغون فكانت أهم الكتب المقدسة هي نصوص التانترا مثل ’’دانيتشيكيو‘‘ و ’’كونغوتشو-كيو‘‘. وفي ذلك الوقت، كان الفهم التاريخي لكيفية تطور الدين وتقاليده ضئيلا. لم يفكر الناس في البوذية الباطنية على أنها أحدث تفسير للتعاليم، كما أنهم لم يعلموا أنها ظهرت كمرحلة أخيرة من عملية تطورية طويلة على مدار التاريخ البوذي.

إحدى سمات البوذية الباطنية هي أنها تميل إلى إعطاء قيمة للتسلسل الهرمي والسلطة. وعلى الرغم من أن إحدى تعاليمها الأساسية تقول إنه يمكن لأي شخص الوصول للتنوير خلال حياته التي يعيشها عن طريق الاستيقاظ على طبيعة بوذا في كل إنسان والتوحد مع طاقة الكون، إلا أن الحقيقة أن هذه التجربة ممكنة فقط لأشخاص ذوي صفات خاصة وأولئك الذين أكملوا ممارسات روحية صارمة كانت بعيدة عن متناول الناس العاديين. وهذا يعني أن معظم الناس لا يمكنهم أن يأملوا في الوصول للتنوير من خلال جهودهم الخاصة. وإنما يجب أن ينظروا إلى هؤلاء الأفراد المميزين ذوي الصلاحيات غير العادية ويطلبوا مساعدتهم في إنجاز ذلك الاستحقاق في الوقت الحالي. تقول البوذية الباطنية إن هناك صنفين أساسيين من الناس في العالم. فقد كانت هناك أقلية مكونة من كائنات مقدسة أو ’’بوذا أحياء‘‘ استطاعوا الاتحاد مع طاقة الكون، وكانت هناك جماهير من الناس العاديين الذين كانت أفضل آمالهم هو الحصول على هدية السعادة عبر تبجيل عدد قليل من الأشخاص الذين وهبوا صفات خاصة. فالعالم مبني على نظام هرمي. بمعنى أنه يمكن اعتبار هذه الهيكلية هي نتيجة طبيعية لحقيقة أن هذه النسخة من البوذية قد تطورت تحت التأثير القوي للهندوسية بنظامها الطبقي المعتَمد دينيا.

وفي القرون التي تلت ذلك، ورثت جميع طوائف البوذية اليابانية التي تنوعت عن هذه الجذور ذلك الجانب من البوذية الباطنية. لذلك تطورت وفقا لنفس الإطار الأساسي الذي قسّم العالم إلى مجموعة صغيرة من الأشخاص المميزين ذوي المواهب والصفات الاستثنائية، ومجموعة من الناس العاديين كان أملهم الوحيد هو بلوغ التنوير من خلال تبجيل تلك الأقلية. وقد شوهد مثال كلاسيكي على هذا الاتجاه خلال الحرب العالمية الثانية عندما اتفقت المدارس البوذية في اليابان على منح الإمبراطور سلطة وقوة شبه إلهية، وتعاونت في مواصلة الحرب. ففي نهاية المطاف، هذا السلوك نابع عن نفس الفهم للتعاليم البوذية.

البوذية الباطنية ونبلاء البلاط

اعتبارا من القرن الثامن لعبت مدرستا تينداي وشينغون دورا رائدا في مركز تطور البوذية اليابانية. ونظرا لأن هاتين المدرستين تميلان إلى توقير السلطة، فمن الطبيعي أن كلتيهما تثمن عاليا الروابط الوثيقة مع سلطة الدولة المتجسدة في شخصية الإمبراطور. ومن الإنصاف القول إن الطائفتين انخرطتا على مدى فترة طويلة في لعبة شد حبل بغرض جلب الإمبراطور إلى جانبهما. وخلال هذا الصراع، اصطفت مدارس نارا البوذية إلى جانب شينغون كرد على ما اعتبرته عدم احترام لمدارس نارا من جانب طائفة تينداي التي كان معبدها الرئيسي في كيوتو.

وقد تولد وضع استمرت فيه مدرستا البوذية الباطنية –تينداي وشينغون– في تعايش صعب كمنافسين داخل هيكل السلطة المتمحورة حول الإمبراطور وبقية نبلاء البلاط. وتجلت الملامح الرئيسية للبوذية اليابانية في تلك المرحلة على النحو التالي:

  1. لم يكن هناك مجتمع سانغا وفقا لقواعد فينايا بيتاكا الانضباطية، ولا توجد قواعد صارمة تحكم الحياة اليومية للرهبان والكهنة البوذيين. وهذا الأمر لا يزال من سمات البوذية اليابانية حتى الوقت الحاضر.
  2. ورثت البوذية اليابانية –من حيث فلسفتها– تقاليد بوذية ماهايانا، ولكنها بُنيت أساسا وفق إطار البوذية الباطنية التي ميزت بين فئة صغيرة من الأشخاص ذوي القدرات أو التدريبات الخاصة وبين الجماهير العادية.
  3. سُخر الدين لتشكيل تحالفات وعلاقات وثيقة مع السلطة الحاكمة والسلطة السياسية.

استمر هذا الوضع لحوالي ثلاثة قرون إلى أن بدأت أسس القوة في الانزياح من طبقة النبلاء في البلاط إلى أيدي طبقة الساموراي وفي النهاية إلى الناس العاديين. بدأت البوذية أيضا في التغير ما فسح المجال لظهور مجموعة متنوعة من المدارس المختلفة. كيف حدث هذا؟ وماذا كانت العواقب؟ سنجيب عن تلك الأسئلة في أجزاء لاحقة في هذه السلسلة.

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: تمثال لكوكاي الذي نقل إلى اليابان مدرسة شينغون للبوذية الباطنية، حقوق الصورة لبيكستا)

البوذية الشنتو الدين