علمنة البوذية اليابانية في عصر نهضة ميجي
ثقافة- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
تطهير مراكز السلطة من البوذية
عملت البوذية اليابانية خلال فترة إيدو جنبا إلى جنب مع الحكومة الشوغونية، وكانت تحظى بنفوذ وسلطة في المجتمع. ولكن مع تحول السلطة السياسية في البلاد من طبقة الساموراي إلى الإمبراطور مع انطلاق عصر نهضة ميجي في عام 1868، باتت مكانة البوذية فجأة غير مستقرة. فقد تمثلت سياسة الحكومة الجديدة في استخدام شكل حديث من الديانة الشنتوية التي تجسد التقاليد الدينية الأصيلة في اليابان، وذلك من أجل تعزيز سيطرة الدولة المركزية تحت قيادة شخصية الإمبراطور. وكانت هذه السياسة مستوحاة إلى حد كبير من نماذج من القوى الأوروبية التي بنت إمبراطورياتها الاستعمارية الحديثة على أسس المسيحية.
تعايشت البوذية في اليابان مع الشنتوية على مدار عدة قرون، وأصبحتا متضافرتين بشكل وثيق، ما أدى إلى شكل فريد من التوفيق بينهما. وكانت للبوذية في فترة إيدو اليد العليا في علاقاتها مع الشنتوية، ولكن انقلب الحال الآن وباتت البوذية تعتبر حجر عثرة في طريق سياسة الحكومة. وتعين على حكومة ميجي إيجاد وسيلة لنزع البوذية من هيكل السلطة ورفع الشنتوية إلى مكانة غير مسبوقة.
أصدرت الحكومة مرسوما يفصل قانونيا بين البوذية والشنتوية اللتين كانتا متداخلتين مع بعضهما بشكل معقد باعتبارهما جزءا من هيكل السلطة خلال فترة إيدو. ولم يكن الهدف من القانون الضغط على الناس للتخلي عن عقيدتهم البوذية، بل إضعاف روابط البوذية بسلطة الدولة.
لكن العلاقة الوثيقة التي حظيت بها البوذية مع السلطة الحاكمة خلال فترة الحكومات الشوغونية أدت إلى استياء واسع النطاق من هذه الديانة، وبلغت ذروتها وبان تأثيرها في أعقاب القانون الجديد الذي يفصل بين البوذية والشنتوية. فقد اندلعت موجة من أعمال العنف المعادية للبوذية في جميع أنحاء البلاد. وأدت هذه الحركة المناهضة للبوذية التي يطلق عليها باللغة اليابانية اسم ”هايبوتسو كيشاكو“، إلى تدمير الكثير من المعابد البوذية وطرد الكهنة البوذيين من مناصبهم في السلطة. لدرجة أنه في بعض المناطق دُمرت جميع المعابد البوذية تقريبا – والتي كان يتجاوز عددها أحيانا ألفا في منطقة واحدة – أو تعرضت لأضرار جسيمة.
شراكة بين البوذية والدولة الشنتوية
على الرغم من أن حركة هايبوتسو كيشاكو ألحقت دمارا واسعا، إلا أنها مثلّت أيضا فرصة نموذجية للإصلاح. ولم تعد البوذية قادرة على الاعتماد على الحماية الكبيرة التي كانت تتمتع بها في ظل الحكومة الشوغونية، كما خسرت دعم الشعب لها. ولكن كيف تمكنت البوذية من الاستمرار والتطور بدون هذا الدعم؟ شرعت الطوائف المختلفة للبوذية اليابانية الآن في البحث عن طرق جديدة للمضي قدما.
كان المخطط الأصلي لحكومة ميجي هو توظيف الشنتوية لتكون الأساس الديني الوحيد للحكومة الجديدة التي تتمحور حول الإمبراطور. لكن كانت هناك آنذاك كميات كبيرة من المعلومات المهمة عن السكان من بينها تفاصيل المواليد والوفيات والزواج والسفر والهجرة، متركزة في المعابد البوذية بموجب نظام ”دانكا“ لتدوين بيانات أتباع الديانة. وكان سيترتب على تفكيك هذا النظام صعوبات هائلة، لذلك غيرت الحكومة في نهاية المطاف رأيها إزاء البوذية، حيث أدركت أنها قد تفيد في ترسيخ سيطرة الحكومة. وبدأت الحكومة في التفكير في البوذية باعتبارها شريكا مهما في حكم البلاد. ولم تعد الدولة الشنتوية آنذاك تعتبر مجرد ديانة، بل رمزا لجوهر الدولة اليابانية. وفي الوقت نفسه، اعتبرت البوذية ديانة معتمدة بشكل رسمي وظيفتها العمل يدًا بيد مع الحكومة المركزية.
وقد كانت هذه السياسة مناسبة للبوذية التي تراجعت شعبيتها إلى مستوى متدنٍ بسبب أعمال العنف ضدها في إعقاب انطلاق عصر نهضة ميجي. وتولت طوائف مثل مدرسة ”نيشي هونغانجي“ زمام المبادرة في تطوير علاقات إيجابية مع حكومة ميجي، حيث طورت توجهات جديدة في الفكر البوذي تجمع بين عناصر من الدولة الشنتوية مع تعاليم أكثر عراقة من البوذية، وانخرطت في التركيز على تقديم الدعم لحكومة ميجي، مستخدمة وسائل مثل تطوير عقائد جديدة قدمت الإمبراطور على أنه تجسيد حي لبوذا.
كما يقف خلف هذه العلاقة التعاونية بين حكومة ميجي والطوائف البوذية التخوف من الدول الغربية التي بدت وكأنها عازمة على السيطرة على العالم من خلال هيكل سلطوي يستند إلى الإيمان المسيحي. وكانت الحكومة والطوائف البوذية تنظر إلى المسيحية على أنها طابور متقدم للإمبريالية الغربية، وصممتا على مقاومتها. واتفق الجانبان على ضرورة العمل معا لمنع المسيحية من كسب موطئ قدم لها وتوسيع نفوذها في اليابان. ولكن سياسة محاولة تقييد النفوذ المسيحي انهارت في وقت لاحق أمام ضغوط القوى الغربية، ولاقت المسيحية في نهاية المطاف قبولا واسعا في اليابان، هذا إن لم يكن إيمانا بهذه الديانة. ولكن للمفارقة أن الكنائس المسيحية بعد فترة وجيزة من ترسيخ جذوها في اليابان انضمت إلى نظام الدولة الشنتوية الذي يتمحور حول شخصية الإمبراطور. فقد ابتلع نظام السيطرة الدينية هذا الذي تعمدت الحكومة إنشاءه، جميع المنظمات الدينية الأخرى في البلاد، بما في ذلك الطوائف البوذية والمسيحية.
الفخ العلماني
لنرجع إلى السنوات الأولى من عصر نهضة ميجي، وتحديدا بعد خمس سنوات من إصدار مرسوم الفصل القانوني بين البوذية والشنتوية في عام 1868. أدركت حكومة ميجي لاحقا أنها تستطيع استخدام البوذية كشريك في حكم البلاد وتعزيز سيطرتها. ولذلك أصدرت الحكومة مرسوما جديدا مذهلا يقضي بالسماح للكهنة البوذيين بشكل رسمي بتناول اللحوم والزواج.
وأعطت الدولة بشكل أساسي ضمانة بأنها ستعترف بأي كاهن بوذي يحمل مؤهلات رسمية حتى وإن كان يعيش حياة علمانية. وقد كان هذا المرسوم نقطة فاصلة في تاريخ البوذية اليابانية، حيث قطع العلاقات بين الممارسات البوذية التقليدية في اليابان وبين الديانة البوذية كما كانت تُمارس في أماكن أخرى في شرق آسيا.
لم يمنع بوذا الكهنة من أكل اللحوم المقدمة لهم كصدقات، حيث في سريلانكا وجنوب شرق آسيا التي لا يزال الكثير من الكهنة يعيشون فيها اليوم كمتسولين من المسموح لهم بأن يأكلوا اللحوم طالما أنهم غير منخرطين فعليا في عملية ذبح الحيوانات. وكان هذا هو أسلوب الحياة الأصلي للكهنة البوذيين في المراحل المبكرة من تاريخ هذه الديانة. لكن في الصين ودول أخرى اعتنقت بوذية ماهايانا في شرق آسيا، درجت العادة على أن يمتنع الكهنة البوذيون عن تناول اللحوم احتراما لجميع الكائنات ذات الإدراك.
وقد ورثت اليابان هذا التقليد، وكان من المفترض – رسميا على الأقل – أن يكون الكهنة نباتيين. ولكن الحكومة الجديدة ألغت بهذا المرسوم تقليد تجنب أكل اللحوم والبقاء بدون زواج من قبل الكهنة. وقالت الحكومة آنذاك إنه لا يوجد ما يمنع الكهنة البوذيين من تناول اللحوم والزواج وإنجاب الأطفال. ومن الواضح أن أحد تداعيات هذا المرسوم الجديد كان تجريد البوذية من هالة القداسة والروحانية، ووضع الكهنة في نفس مستوى العلمانيين. لقد كان فخا ذكيا مدروسا بعناية نصبته حكومة ميجي بهدف حرمان البوذية من سلطتها وتركيز الهيبة في شخصية الإمبراطور.
وقد وقعت البوذية اليابانية في الفخ، واعتنقت بشغف أسلوب الحياة العلماني. وعلى الرغم من أن بعض الكهنة رفضوا المرسوم وفضلوا الإبقاء على ”نقاء“ البوذية، إلا أن معظمهم اختاروا التناغم مع توجيهات الحكومة وتبنوا أسلوب حياة علماني كأعضاء عاديين في المجتمع، بدلا من اختيار الدفاع عن كبريائهم ككهنة بوذيين.
ودعونا لا ننسى أن من بين ما يميز البوذية اليابانية عن تلك في البلدان الأخرى هو افتقارها إلى نظام فينايا بيتاكا الانضباطي لمجتمع السانغا. ولو كان الكهنة اليابانيون يعيشون وفقا لتعاليم هذه القواعد الأخلاقية، لكان من المؤكد أن المرسوم الحكومي سيثير جدلا جديا داخل السانغا من حيث أيهما أكثر أهمية: حكم صادر عن الحكومة المركزية أم قواعد فينايا بيتاكا التي أنشأها شاكياموني؟ ومن المؤكد أن النصر سيكون حليف الرأي القائل إن التعاليم المقدسة يجب أن تكون لها الأسبقية. ولربما كان مجتمع السانغا سيقدم التماسا إلى الحكومة يشير فيه إلى أن المرسوم الجديد غير مقبول لأنه يتعارض مع القواعد الانضباطية التي تحكم سلوك الكهنة البوذيين لمدة 2500 عام، ويطلب من الحكومة سحب المرسوم.
ولكن هذا الجدال لم يتم في حقيقة الأمر. فعلى الرغم من اعتراض بعض الناس على المرسوم، اختارت البوذية اليابانية ككل التخلي عن طبيعتها المقدسة وتبني نمط حياة علماني. ولم يكن هذا الأمر ممكن الحدوث لولا فشل البوذية اليابانية في عدم إدخال نظام فينايا بيتاكا الذي يضبط سلوك الكهنة يضمن نقاء وقدسية المجتمع. وقد ركزت حكومة ميجي بنجاح على أكبر نقطة ضعف لدى البوذية اليابانية وتمكنت من إخراج هذه الديانة من مركز النفوذ السياسي.
البوذية والانخراط في الحرب
تحولت البوذية اليابانية بعد أن فقدت هالة القداسة التي تحيط بها وأصبحت مجرد عضو آخر في المجتمع العلماني، تحولت إلى نوع من المنظمات المهنية دورها التعاون مع الحكومة في الدفاع عن الأمة ودعم نظام سيطرة الدولة الذي يتمحور على الإمبراطور. وعندما تحولت اليابان إلى العسكرة لاحقا، تعاونت جميع الطوائف المختلفة في المجهود الحربي، حيث جمعت الأموال للقتال وضغطت على المؤمنين بها للانضمام إلى القوات المسلحة، وحتى أن كانت تبشر بأن الموت في سبيل البلد يمثل الطريق الأسمى إلى الجنة. وباتت البوذية منخرطة بلا خجل في مجموعة كاملة من السلوكيات غير الأخلاقية التي لم تكن محتملة في ظل نظام فينايا بيتاكا.
ولكن عندما استسلمت اليابان دون قيد أو شرط أمام قوى الحلفاء في عام 1945، تهاوى الدافع وراء هذه السلوكيات، وباتت البوذية اليابانية بدون أي هدف أخلاقي سامٍ. وتلاشت سلطة الدولة والحماية التي كانت توفرها للبوذية التي كانت قد اختارت بالفعل التخلص من الكثير من هالتها الدينية. كان التوجه السياسي في سنوات ما بعد الحرب هو استبعاد الدين من الأماكن الحكومية. واضطرت البوذية اليابانية في ظل تقييد نطاق نشاطها في المجال العام، إلى إيجاد دور جديد لنفسها. فقد بدأت في السنوات اللاحقة بداية جديدة معتمدة على نظام دانكا لتدوين بيانات الأسر والذي كان لا زال ساريا منذ فترة إيدو، وكان أملها الوحيد في نجاتها على الصعيد الاقتصادي.
(النص الأصلي باللغة اليابانية. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: تماثيل بوذية مقطوعة الرؤوس، تمثل ضحايا موجة العنف المعادي للبوذية التي اجتاحت البلاد في أعقاب عصر نهضة ميجي، © فوتولايبراري)