جينات إنسان نياندرتال تجعل الإصابة بفيروس كورونا الجديد أكثر خطورة!

ثقافة

لو لم يتزاوج الإنسان العاقل مع إنسان نياندرتال، فلربما كان قد انقرض بسبب مرض مثل الإنفلونزا أو غيرها. لكن الجينات الموروثة من إنسان نياندرتال ربما تكون قد أدت إلى نتائج مأساوية فيما يتعلق بوباء فيروس كورونا الجديد.

التعايش بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل

في المقالة السابقة، قمنا بإلقاء نظرة على التاريخ البشري من منظور إنسان نياندرتال، ولكن في هذه المرة، دعونا ننظر إليه من منظور الإنسان العاقل. يشير التحليل الجيني إلى أن الإنسان العاقل (الإنسان الحديث) نشأ في شرق إفريقيا منذ حوالي 200 ألف عام، وانتشر في جميع أنحاء العالم عبر البحر الأحمر. وفي الواقع، تم العثور على أحافير عمرها 195 ألف عام في موقع أومو كيبيش الأثري في جنوب إثيوبيا. ولكن لاحقا، تم نقض هذه النظرية الثابتة مع اكتشاف أحافير بشرية تعود إلى حوالي 259 ألف عام في موقع فلوريزباد في جنوب إفريقيا.

تصور لتزاوج الإنسان العاقل (الإنسان الحديث) وإنسان نياندرتال

وهذا يتطلب مزيدا من التصحيح. فمنذ ستينيات القرن الماضي، تم اكتشاف العديد من الأحافير والأدوات البشرية في موقع جبل أرفود في المغرب في شمال إفريقيا. ومنذ عام 2004 أعادت فرق من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا ودول أخرى التنقيب في الموقع وعثرت على خمسة فكوك وجماجم بشرية. وكشف تحليلها أن عمرها كان حوالي 315 ألف عام، وتم الإعلان عنها في عام 2017 على أنها أقدم أحافير لإنسان عاقل. وبالتالي أصبح تاريخ الإنسان العاقل أقدم من النظرية الأصلية بــ 100 ألف عام، وتم نقض النظرية التي تقول إنه نشأ في شرق إفريقيا.

ويقول جان ، أحد علماء علم التطور البشري الذي شارك في الدراسة ورئيس ”الجمعية الأوروبية لدراسة التطور البشري“، يقول ”يبدو أن المغرب لم يكن مهد الإنسان العاقل، بل إن أقدم إنسان عاقل ربما كان يسكن بالفعل في أجزاء مختلفة من إفريقيا منذ حوالي 300 ألف عام“.

من ناحية أخرى، يشرح ديفيد رايش، عالم الوراثة في جامعة هارفارد، ذلك في كتابه ”التزاوج البشري: تاريخ جديد للإنسان العاقل يكشفه الحمض النووي القديم“، ويقول ”إن الإنسان العاقل الذي كان في مراحله الأولى، غادر إفريقيا وانتشر إلى أوروبا، ولكن تم طرده من قبل إنسان نياندرتال الأصلي واضطر إلى الانسحاب إلى شمال وشرق إفريقيا منذ حوالي 300 عام. وهذا سبب العثور على العظام في المغرب“.

ومنذ حوالي 50-60 ألف سنة، استعاد الإنسان العاقل زخمه، وشرع مرة أخرى في ”الهروب من إفريقيا“. وفي هذه المرة، قام بطرد إنسان نياندرتال بعيدا، ووصل إلى محيط إيران في الوقت الحالي. ومن هناك، انقسم وتفرق عبر ثلاثة طرق هي ”الطريق الجنوبي“ الذي يتجه إلى قارة أوقيانوسيا من الهند وجنوب شرق آسيا، و”الطريق الشمالي“ الذي يتجه إلى جبال ألتاي، وشرق آسيا، وشمال آسيا عبر آسيا الوسطى، و”الطريق الغربي“ الذي يتجه إلى الشرق الأوسط وأوروبا. ويُعتقد أن يكون الإنسان العاقل قد تزاوج مع إنسان نياندرتال في مكان ما على طول هذا ”الطريق الغربي“ وقام بنقل جينات مختلفة إلى نسله.

ويمكن الاستدلال على حقيقة أن كلاهما عاش في نفس المنطقة من التنقيب الأخير في المواقع الأثرية التي تتميز بخصائص كلتا الثقافتين في إيطاليا وفرنسا وبلغاريا وأماكن أخرى. وهكذا تصبح رواية الكاتبة جان أويل الملحمية ”إيلا طفل الأرض“ التي تصور الاختلاط بين إنسان نياندرتال وإنسان كرومانيون، سلف الإنسان العاقل، رواية صحيحة. وهي رواية تحكي قصة نشوء بطلة الرواية إيلا التي تُعتبر إنسان كرومانيون تمت رعايتها من قبل عشيرة إنسان نياندرتال بعد أن أصبحت يتيمة بسبب الزلزال. وأصبحت هذه الرواية من أكثر الكتب مبيعا في الكثير من الدول.

الإنجاز الجيني الموروث

يُعتقد أن إنسان نياندرتال قد اكتسب مناعة ضد الفيروسات التي كانت موجودة في أوروبا على مدى 300 عام منذ وصوله إلى هناك. ومن ناحية أخرى، فلا يوجد شك بأن الوافد الجديد من القارة الإفريقية والمتمثل بالإنسان العاقل لم يكن لديه مقاومة كبيرة لمثل هذه الفيروسات ومسببات الأمراض الأخرى. ومن المفترض أن يكون الاثنان قد تبادلا الأمراض المختلفة مع بعضهما البعض من خلال ”الاختلاط“.

وبسبب قوة ”الضغط الانتقائي“ للفيروسات، يُعتقد أن جينات إنسان نياندرتال المقاومة للفيروسات انتشرت بسرعة بين الإنسان العاقل من خلال التزاوج. و”الضغط الانتقائي“ هو الانتقاء الطبيعي الذي يفضل الأفراد ذوي الخصائص المعينة في عملية تطور الكائنات الحية. فعلى سبيل المثال، إذا تم القضاء على معظم الفيروسات من خلال تلقي اللقاحات، وكان هناك إحدى السلالات المتحورة التي اكتسبت آلية للتهرب من تأثير اللقاحات، فإنها يمكن أن تنتشر بسرعة. وهذه الحالة تُسمى ”الضغط الانتقائي“.

وقام ديمتري بيتروف وفريقه البحثي من جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة بتسجيل أكثر من 4500 جينة للإنسان العاقل مرتبطة بالفيروسات، وقام بمقارنتها بقاعدة بيانات الحمض النووي لإنسان نياندرتال، ووجد أن 152 منها موروثة من إنسان نياندرتال. وترتبط العديد من هذه الجينات بفيروسات الحمض النووي الريبي (مسببات كورونا، والإنفلونزا، والتهاب الكبد الوبائي وغيرها).

ويُعتقد أن أحد أسباب نجاة أسلافنا من العديد من الأمراض المعدية حتى الآن هو أنهم كانوا قادرين على الهروب من العدوى من خلال الجينات التي ورثوها من إنسان نياندرتال. ويقول بيتروف ”إن أسلافنا، عبروا من القارة الإفريقية إلى أوروبا دون أن يكون لديهم مناعة، وتمكنوا من وراثة مقاومة الفيروسات من إنسان نياندرتال الذي التقوا به هناك. ولو لم يتزاوجوا، فلربما كان أسلافنا قد انقرضوا بسبب إصابتهم بأحد الأمراض الفيروسية“.

وبالإضافة إلى المناعة ضد الأمراض المعدية، فإن المعلومات الجينية لإنسان نياندرتال تلعب دورا كبيرا في الجينات المتعلقة بوظيفة بروتين ”الكيراتين“ الذي يشارك في تكوين الجلد والشعر، والتي تُعتبر أشياء مهمة للحفاظ على درجة حرارة الجسم. ويمكن تصور أن الإنسان العاقل المولود في إفريقيا أصبح قادرا على تحمل البرد من خلال دمج الجينات التي يعود أصلها لإنسان نياندرتال الذي تكيف مع المناخات الباردة. وبالإضافة إلى ذلك، تحتوي مناطق الجينات التي تتحكم في الوظائف البيولوجية المهمة، مثل الحد من استجابة الجلد لأشعة الشمس، والسيطرة على الكوليسترول الضار، تحتوي على جينات يعود أصلها لإنسان نياندرتال.

جينات إنسان نياندرتال تمتلك حل لغز الإصابة الخطيرة بفيروس كورونا الجديد

إلا أن تلك الجينات لم تكن متقنة الصنع. وقام سفانتي بابو من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري في ألمانيا، والحائز على جائزة نوبل، بنشر بحث في مجلة ”نيتشر“ العلمية البريطانية بتاريخ الأول من شهر سبتمبر/أيلول من عام 2020، يقول فيه إن جينات إنسان نياندرتال التي تم إدخالها في الجينوم البشري تزيد من خطر تحول الإصابة بفيروس كورونا الجديد إلى إصابة خطيرة.

سفانتي بابو يبتسم بجانب نموذج هيكل عظمي لإنسان نياندرتال في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري قبل مؤتمر صحفي بعد حصوله على جائزة نوبل = تصوير بتاريخ 3/10/2022 (رويترز)
سفانتي بابو يبتسم بجانب نموذج هيكل عظمي لإنسان نياندرتال في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري قبل مؤتمر صحفي بعد حصوله على جائزة نوبل = تصوير بتاريخ 3/10/2022 (رويترز)

ويقال إن البشر الذين ورثوا جينات معينة من إنسان نياندرتال يرتفع احتمال تدهور حالتهم الصحية عند الإصابة بفيروس كورونا الجديد بمقدار الضعف تقريبا.

وحوالي 16% من السكان في أوروبا يحملون جين نياندرتال الذي يؤدي إلى تدهور حالة الإصابة، مقارنة مع حوالي 50% في كل مناطق جنوب آسيا. ففي بنغلاديش وحدها يحمل 63% من الناس الجين الذي يؤدي إلى تدهور حالة الإصابة. وقد يفسر هذا سبب ارتفاع معدلات الوفيات لدى المقيمين في بريطانيا من أصل بنغالي مقارنة مع نظرائهم من البريطانيين الآخرين.

ومن ناحية أخرى، في شرق آسيا، لا يوجد إلا 4% فقط. وقد يكون هذا هو السبب في وجود عدد قليل من الإصابات الخطيرة في دول ومناطق شرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وقد بدأ وباء فيروس كورونا الجديد بالانتشار أولا في الصين، ولكن بالمقارنة مع أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا الوسطى والجنوبية التي انتشرت العدوى فيها على نطاق واسع، فإن عدد الإصابات الخطيرة في شرق آسيا أقل بكثير. وكما ذكرت في المقالة السابقة، هل يعتبر انتشار وباء فيروس كورونا الخطير، الذي قيل إنه حدث في كامل منطقة شرق آسيا منذ أكثر من 20 ألف عام، هو ”العامل X لدى اليابانيين“ الذي تم تسليط الضوء عليه في الأيام الأولى لهذا الوباء يا ترى؟ للأسف، إن ذلك غير معروف.

يتحدث توني كابرا، عالم الوراثة في جامعة فاندربيلت في الولايات المتحدة، عن العلاقة بين هذا الجين الذي يؤدي إلى تدهور حالة الإصابة وبين فيروس كورونا الجديد، ويقول ”أعتقد أن هذا الجين القديم قد يسبب استجابة مناعية مفرطة، ويصبح عدوانيا عند الإصابة بفيروس كورونا الجديد. ويتم إفراز السيتوكينات التي تُعتبر مواد مناعية، وتهاجم الأنسجة المصابة للحد من انتشار العدوى. ولكن عندما يصبح عملها مفرطا، يبدأ فقدان السيطرة على الاستجابة المناعية والذي يُسمى ”عاصفة السيتوكينات“، الأمر الذي يؤدي إلى تضرر حتى أنسجة الرئة الطبيعية“.

ويقول بابو ”إنه لأمر مروع أن يكون لتراثنا الجيني من إنسان نياندرتال عواقب مأساوية خلال جائحة فيروس كورونا الجديد الحالية“.

هل يمكن منع تدهور الإصابة؟

لم يكن كل شيء سيئا. حيث تم تحديد الجين الذي يمنع تدهور حالة الإصابة بفيروس كورونا الجديد. وفي نهاية عام 2020، وجدت مجموعة من الباحثين بقيادة زو سيري من جامعة مكغيل في كندا أن الأشخاص الذين لديهم مستويات أعلى من بروتين يسمى OAS1 في دمائهم كانوا أقل عرضة للإصابة بفيروس كورونا الجديد وأقل عرضة لتدهور حالتهم عند الإصابة به. والأشخاص الذين يحملون الجين الذي يصنع هذا البروتين تكون نسبة خطر تدهور حالة الإصابة بفيروس كورونا الجديد لديهم أقل بحوالي 20%.

وهذا الجين موروث من إنسان نياندرتال، وحوالي 50% من الأشخاص الذين يعيشون خارج إفريقيا يمتلكونه، بالإضافة إلى أن 30% من اليابانيين يمتلكونه أيضا. وتقول زو إن مثل هذا التحيز العرقي نشأ ”ربما بسبب أن الأشخاص الذين لم يكن لديهم الجين الذي يؤدي إلى تدهور الإصابة قد بقوا على قيد الحياة“ عندما واجهوا جائحة كورونا في الماضي.

وهذا يعني أن قتلنا أو إبقاءنا على قيد الحياة من قبل الجينات التي تؤدي إلى تدهور حالة الإصابة أو تلك الجينات التي تمنع حدوث ذلك، يعتمد على الجينات الموروثة من إنسان نياندرتال. إلا أنه وفقا لنظرية ”الجين الأناني“ لعالم السلوك الحيواني ريتشارد دوكينز، فإن الغرض الوحيد من الجينات هو ”زيادة نسبة النجاح الذاتي (نسبة البقاء على قيد الحياة ونسبة التكاثر) أكثر من الآخرين“. وهو تماما نفس الشيء الذي يبذل كل من البشر والفيروسات قصارى جهدهم لترك جيناتهم الخاصة من أجله. ويعتبر البشر مضيفين مستقرين مثاليين للفيروسات. ويعود ذلك إلى أن الإنسان يتمتع بعمر طويل وتغذية جيدة ومعدل وفيات منخفض بشكل ملحوظ حتى بين الرئيسيات.

وليس هناك شك في أن جينات فيروس كورونا الجديد قد تسللت بالفعل إلى الجينومات الخاصة بنا. ويقول بعض الباحثين إن هذا هو السبب في أن بعض الأشخاص الذين تعافوا من العدوى يصابون بها مرة أخرى بعد عدة أشهر. وكما تجعل جينات العصور القديمة التي تؤدي إلى تدهور حالة الإصابة الأجيال اللاحقة متمثلة بنا تعاني، فإن الجينات من الفيروسات الأخرى التي تسللت إلى الجينومات الخاصة بنا قد تلحق نوعا من الضرر بأحفادنا في المستقبل. وهناك نقاش محتدم على تويتر بين الباحثين حول هذا الاحتمال.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، صورة العنوان الرئيسي: مكان لإقامة الجنائز في حي كوينز في نيويورك حيث تم جمع جثث الذين فقدوا حياتهم بسبب الإصابة بعدوى فيروس كورونا الجديد. تم التصوير بتاريخ 22/4/2020. قبل جائحة كورونا، كان يتم التعامل مع 7-8 جثث أسبوعيا في المتوسط، ولكن الآن يتم إحضار أكثر من 40 جثة (هذه الصورة ليست مرتبطة مباشرة بمحتوى المقالة، الصورة من غيتي/ من تصوير سبنسر)

الصحة النفسية الصحة التاريخ الياباني