التهديدات التي تواجه استقلالية بنك اليابان المركزي

اقتصاد

الديمقراطية تقوم على إرادة الشعب، ولكن ماذا يحدث عندما تتحول إرادة الأغلبية إلى قوة سياسية تطغى على استقلالية مؤسسات الدولة؟ في كتاب جديد يتناول بنظرة نقدية تأثير سيطرة آبي شينزو على بنك اليابان، تُطرح تساؤلات جوهرية حول كيفية تداخل السلطة السياسية مع المؤسسات المستقلة وتأثير ذلك على الأسس الاقتصادية والقواعد الديمقراطية. يفتح هذا الكتاب باب النقاش حول العلاقة بين السياسة والاقتصاد في اليابان، ودور القيادات في توجيه السياسات النقدية، وما إذا كان هذا التداخل يعزز الاستقرار أم يشكل خطرًا على المبادئ الديمقراطية.

تجاهل مبدأ استقلالية البنك المركزي

جسدت فترة الإدارة الثانية لآبي شينزو والتي شغل فيها منصب رئيس الوزراء لمدة ثماني سنوات تحولا عالميا نحو الحكم المدفوع بالرأي العام. يستعرض هذا الكتاب بالتفصيل التدخل السياسي في تعيينات بنك اليابان، ويشرح معنى استقلالية البنك المركزي. ويستند المؤلف في تحليلاته إلى تحريات متعمقة في طبيعة الديمقراطية وأهدافها.

ربما كانت أبرز سمات فترة آبي (2012–2020) محاولته استغلال انتصاراته الانتخابية المتتالية للتأثير على مجالات كانت تُعتبر سابقا خارج نطاق سلطته. ومن أجل تنفيذ سياساته، استبدل مفوض مكتب التشريع في مجلس الوزراء وتدخل في تعيين المدعي العام. وقد برر هذه التحركات مدعيا أنها تعكس الرأي العام التي عبر عنها الشعب في صناديق الاقتراع. ويقتبس عنه الكتاب قوله ”ليس مفوض مكتب التشريع في مجلس الوزراء هو من يحاسب أمام الناخبين، بل أنا بصفتي رئيسا للوزراء“. كانت هذه حجة بسيطة، إن لم نقل مبسطة، ولكنها كانت مقنعة بشكل غير متوقع في ظل إحباط واسع النطاق إزاء الركود الاقتصادي وتراجع التفاؤل بشأن المستقبل.

توضح تعيينات محافظ بنك اليابان وأعضاء مجلس سياساته، والتي تشكل محور هذا الكتاب، هذا التوجه بصورة كاملة. ففي السابق، كانت هذه التعيينات تتم من خلال مناقشات خلف الكواليس بين البنك ومسؤولين من وزارة المالية، وبعد ذلك يتم ترشيح شخص (لا بد أن يكون شخص ترقى بمناصب في بنك اليابان أو وزارة المالية أو في كليهما) للموافقة الرسمية من قبل رئيس الوزراء. ويعترف المؤلف بأن هذا النهج ”النخبوي“ لم يكن مثاليا تماما. ولكنه يزعم أنه لعب دورا مهما في الحماية من تقلبات الرأي العام. كانت حكومة آبي هي أول حكومة تتدخل بشكل مباشر في عملية اتخاذ القرار تلك، حيث قام آبي مباشرة بصفته رئيسا للوزراء بتعيين كورودا هاروهيكو محافظا للبنك.

يرتكز المؤلف في تحليلاته على مقابلات مع الأشخاص المعنيين، فضلا عن الاستعانة بأدلة مستمدة من مجموعة واسعة من الكتب والمقالات الصحفية والسجلات البرلمانية. ومن الملفت للانتباه بشكل خاص وصفه للحظة في عام 2012 عندما بدأ آبي في اتخاذ خطوات لضمان أن يتم تعيين المحافظ التالي وفقا لرغباته. ففي عهد المحافظ السابق شيراكاوا ماساكي، قاوم بنك اليابان بشدة منصة ”آبينوميكس“ التي اقترحها آبي، والتي كان أحد ركائزها برنامجا طموحا للتيسير النقدي.

استجاب آبي من خلال توجيه هوندا إيتسورو المقرب منه هو الذي كان يشغل منصب المستشار الخاص لمجلس الوزراء، لإعداد قائمة بالمرشحين المناسبين لمنصب المحافظ. واقترح هوندا كلا من كورودا وإيواتا كيكو، وهو أستاذ في جامعة غاكوشوئين. كان كورودا، الذي شغل سابقا منصب مسؤول في وزارة المالية، رئيسا لبنك التنمية الآسيوي في ذلك الوقت، حيث كان يدعم بقوة دعوات آبي لانتهاج سياسة تيسير نقدي. وقد أعجب آبي بهذا الدعم، حيث قال لاحقا ”أدرك كورودا قيمة أفكاري في الوقت الذي كنت أتعرض فيه للهجوم من وسائل الإعلام وخبراء اقتصاديين. وكان ذلك أمرا لافتا بشكل خاص لأنه كان محافظا لبنك متحالف مع الحكومة، بينما كنت أنا رئيسا لحزب معارض آنذاك“.

وفي نهاية المطاف، قرر إيواتا التنازل عن المنصب الأعلى، مشيرا إلى أنه سيكون سعيدا بمنصب نائب المحافظ، إلا أن آبي أشار على هوندا إلى أنه ”ربما لا يتعين منح إيواتا هذا المنصب“. تعطي مثل هذه الأوصاف للقارئ لمحة عما يجري خلف الكواليس وما يكتنفه من غموض ودوافع خفية لدى الأطراف المعنية. ومن الواضح أيضا أنه لم يتم إشراك بنك اليابان ووزارة المالية إطلاقا في تلك القرارات خلال ذلك الوقت الحرج. ولم يتم إيلاء أي اعتبار لدور البنك المركزي أو أهمية استقلاله عن الحكومة القائمة آنذاك. بل استند اختيار المحافظ بالكامل إلى مصالح قائد واحد يسعى لتنفيذ سياساته الخاصة.

من الديمقراطية إلى الديماغوجية؟

لماذا تعتبر استقلالية البنك المركزي مهمة إلى هذا الحد؟ وفقا للرأي السائد، يتعلق هذا بالمهمة الرئيسية للبنك المتمثلة في تحقيق استقرار الأسعار. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، قد يختلف تقييم البنك عن تقييم الحكومة، التي تميل إلى التركيز على الظروف الاقتصادية المباشرة. وإذا بدأ البنك في إعطاء الأولوية للوضع الاقتصادي قصير المدى بنفس الطريقة واضعا رأي الناخبين في الحسبان، فسيجد صعوبة في السيطرة على التضخم. ويؤدي ذلك على المدى الطويل إلى عواقب سلبية كبيرة على المجتمع والاقتصاد. وقد علمتنا التجربة أن الحفاظ على استقلالية البنك المركزي وسيلة فعالة للحد من هذا الخطر. وقد تم توضيح هذا المبدأ بشكل صريح في قانون بنك اليابان المعدل، والذي دخل حيز التنفيذ في عام 1998.

في الجزء الثاني من الكتاب، يوضح المؤلف بالتفصيل العملية التي تم من خلالها تقويض استقلالية البنك بشكل جذري. أحد الأجزاء المهمة من الإطار الذي من المفترض أن يضمن استقلالية البنك هو مجلس السياسة النقدية. يمتلك الأعضاء الستة في المجلس خلال اجتماعات السياسة النقدية صوتا واحدا لكل منهم إلى جانب المحافظ ونائبيه. ويبين الكتاب كيف عمل آبي على إخضاع أعضاء المجلس لإرادته. لكن ربما تكون أكثر الحقائق اللافتة للانتباه هي ما حدث قبل ذلك بقليل، في اجتماع السياسة النقدية الذي أقيم في أبريل/نيسان عام 2013، مباشرة بعد تولي كورودا منصب المحافظ.

شكل الأعضاء الذين دعموا شيراكاوا في معارضته لسياسة آبي الاقتصادية أكثر من نصف أعضاء المجلس. وبالنظر إلى استقلالية أعضاء المجلس وتناسق السياسة، فلم يكن هناك سبب يجعلهم بالضرورة يوافقون على سياسات المحافظ الجديد ونائبيه. ولكن تبين أن الضوابط التي تحمي النظام كانت ضعيفة بشكل مفاجئ. اقترح كورودا برنامجا طموحا للتيسير النقدي يهدف إلى أن يقوم البنك بعمليات في سوق المال ”بحيث تزيد القاعدة النقدية بمعدل سنوي يتراوح بين 60 تريليون ين و70 تريليون ين“. وتمت الموافقة على الاقتراح بأغلبية 7 أصوات مقابل صوتين. وقد انقلب أعضاء مجلس الإدارة الذين دعموا سابقا سياسة شيراكاوا، وأصبحوا يؤيدون كل ما كانوا يعارضونه دائما.

ولكن ما الذي دفعهم إلى الاستسلام بسهولة؟ إن الشهادات التي استند إليها المؤلف من أشخاص منخرطين بشكل مباشر في كتابه تكشف الحقائق. يقول أحد الأعضاء ”لم أفكر حتى في معارضة الاقتراح... فقد تبنيت موقفا مفاده بأنه أمر لا يمكن تجنبه بصفتي عضوا في المنظمة“. ويعترف آخر ”في الانتخابات العامة التي جرت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فاز آبي والحزب الليبرالي الديمقراطي بحجة مقنعة وهي تعهده بتنفيذ برنامج تيسير نقدي طموح. وقد حظيت الفكرة بتأييد ديمقراطي من الشعب. ولم يكن هناك بديل“. وبعبارة أخرى، حتى الخبراء الماليون الذين يتمتعون بمكانة كافية لتعيينهم كأعضاء في مجلس السياسات لم يدركوا تماما أهمية الحفاظ على استقلالية البنك المركزي عن الحكومة.

ويثير المؤلف تساؤلات جوهرية حول التداعيات المترتبة على ذلك، حيث يقول ”هذا من شأنه أن يجعل نتائج الانتخابات أكثر أهمية من استقلالية البنك المركزي. هل كان هذا حقا ما قصدته النسخة المعدلة من قانون بنك اليابان؟“.

وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة أن العديد من كبار المسؤولين في بنك اليابان (الأشخاص الذين يفترض أنهم يمثلون استقلالية البنك) قاموا بتغيير موقفهم فجأة عندما تولت الحكومة الجديدة السلطة وعملت خلف الكواليس لإقناع أعضاء المجلس المعارضين لتلك السياسات بدعم مقترحات كورودا.

انهار الهدف النبيل المتمثل في إنشاء بنك مركزي مستقل والمنصوص عليه في قانون بنك اليابان المعدل في مواجهة لاعبين سياسيين صارمين عازمين على تحقيق مصالحهم الخاصة.

إن الإرادة الشعبية تشكل ضمانة أساسية ضد الدكتاتورية والحكم الاستبدادي. ولكن أظهر التاريخ الحديث أنه حتى الأنظمة الديمقراطية معرضة لإساءة الاستخدام إذا لم يتم عزل مجالات معينة عن تقلبات الرأي العام. وعندما يفتقر السياسيون إلى الفهم الصحيح لهذا الجانب من الحكم ويبدؤون بإجراء تعيينات وفقا لمصالحهم السياسية (مبررين أفعالهم بالإشارة إلى التفويض الانتخابي) فإن هذه الأنظمة الديمقراطية المتوازنة بدقة قد تتعطل. وهذا بدوره قد يزيد من احتمالية الاستبداد الذي من المفترض أن تمنع ​​الديمقراطية هذا الخطر. وبينما يمتلك صنع السياسات المستند إلى الرأي العام نقاط قوة، إلا أنه ينطوي أيضا على مخاطر كبيرة. يستعرض هذا الكتاب الذي يبحث بعناية فائقة تفاصيل هذه المعضلة بوضوح لا يخلو من الجرأة.

”جينجي تو كينريوكو: نيتشيغين سوساي بوسوتو تو تشوؤ غينكو نو دوكوريتسو (التعيينات والسلطة: منصب محافظ بنك اليابان واستقلالية البنك المركزي)“

”جينجي تو كينريوكو: نيتشيغين سوساي بوسوتو تو تشوؤ غينكو نو دوكوريتسو (التعيينات والسلطة: منصب محافظ بنك اليابان واستقلالية البنك المركزي)“

من تأليف كاروبي كينسوكي
نشر من قبل دار النشر إيوانامي شوتن في يوليو/تموز عام 2024
ISBN: 978-4-00-061648-5

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية، الترجمة من الإنجليزية. صورة العنوان: بنك اليابان في حي تشوؤ بطوكيو. © رويترز)

البنك المركزي بنك اليابان اقتصاد