”المرأة الحديدية“ لم تمنعها إصابتها بالجذام من أي شيء، فأحبت وتزوجت وكوّنت أسرتها الخاصة

صحة وطب

في الماضي، تسببت السياسات العنصرية والوصم الاجتماعي التي انتهجتها الحكومة اليابانية إزاء المصابين بمرض هانسن (الجذام) في حرمانهم من أن يعيشوا حياة طبيعية. لكن لم يسمح جميع المرضى لهذا التمييز بأن يحدد مصيرهم. ياماؤتشي كيمي، التي ظهرت في الفيلم الوثائقي Gaika (أغاني النصر)، قررت الزواج وتكوين أسرة ومشاركة تجاربها مع الآخرين. تحدثنا معها عن رغبتها في العيش ومواجهة كل هذه المصاعب غير العادية.

إن مرض هانسن (الجذام) يطارد البشرية منذ العصور القديمة. على الرغم من وجود علاجات فعالة، بما في ذلك عقار برومين، منذ أربعينيات القرن الماضي ونجاح طرق العلاج بأدوية متعددة في شفاء المرضى منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن المعلومات المضللة وسوء الفهم المتعلقين بهذا المرض لا يزالا قائمين حتى يومنا هذا.

في اليابان، كان المصابون بمرض هانسن يُعزلون في مصحات تديرها الحكومة، وهي ممارسة لم تنتهي إلا بإلغاء قانون الوقاية من مرض هانسن في اليابان في عام 1996. اعتبارًا من مايو/ أيار 2019، كان هناك حوالي 1200 مريضاً سابقاً معظمهم من كبار السن ويعانون من مشاكل طويلة الأمد مثل الألم العصبي وتشوه المفاصل، وكانوا يعيشون في منشآت منتشرة في جميع أنحاء البلاد.

يناقش الفيلم الوثائقي الحديث Gaika (أغاني النصر) للمخرج ساكاغوتشي كانسومي حياة المصابين بمرض هانسن مثل ياماؤتشي كيمي أحد أقدم النزلاء في مصحة تاما زنشوين الوطنية في هيغاشيموراياما، طوكيو.

مرض يصعب تشخيصه

ولدت ياماؤتشي عام 1934 في محافظة شيزوكا. وتقول إن البقع التي تغير لونها والتي تعد المؤشر الأول لمرض هانسن بدأت في الظهور عندما كانت في السابعة من عمرها، وهو نفس العام الذي اندلعت فيه حرب المحيط الهادئ، لكن لم يشتبه أحد حينها في إصابتها بمرض هانسن، ولم يتم عرضها على الطبيب إلا عندما بدأت يداها وقدماها في الالتواء والتخدّر، وتم تشخيص الحالة على أنها التهاب المفاصل الروماتويدي المزمن عند الأطفال. تم إعطاؤها الدواء لكن لم يطرأ على حالتها أي تحسن.

لا تفوّت ياماؤتشي أي فرصة لتثقيف الناس حول مرض هانسن، بما في ذلك عملها كمستشارة في الفيلم الياباني An إنتاج 2015، والذي تدور أحداثه في مصحة تاما.
لا تفوّت ياماؤتشي أي فرصة لتثقيف الناس حول مرض هانسن، بما في ذلك عملها كمستشارة في الفيلم الياباني An إنتاج 2015، والذي تدور أحداثه في مصحة تاما.

تروي قائلة: ”بعد الحرب، انتقل جميع زملائي في الصف إلى المدرسة الإعدادية، لكن لم يكن بإمكاني إمساك قلم رصاص أو قلب صفحات الكتب، لذلك توقفت عن الدراسة وبدأت العمل كمساعدة في أحد محلات الخياطة. لكن مع تدهور حالة إعاقتي، اضطررت في النهاية إلى التوقف عن العمل أيضًا“.

تقول ياماؤتشي إن زوجة أخيها دعمتها بشكل كبير خلال تلك الأوقات الصعبة. عندما بدأت الشائعات تنتشر في الجوار حول احتمال إصابة ياماؤتشي بمرض هانسن، تم عرضها على أخصائي قام بتأكيد إصابتها بمرض هانسن. كان عمرها 22 عامًا حينما أخبرها الطبيب بأنها عقيمة أيضًا، ربما بسبب دواء الروماتيزم الذي كانت تتناوله.

كان علاج مرض هانسن متاحًا في ذلك الوقت، لكن اليابان كانت ماتزال تتبنى سياسة الفصل العنصري. وظل المرضى وعائلاتهم يعانون من تعرضهم لوصمة عار اجتماعية قوية بالإضافة إلى تمييز رهيب. نظرًا لكونها عقيمة، لم تتعرض ياماؤتشي للفصل العنصري، لكنها قررت الدخول إلى مصحة تاما بعيدًا عن موطنها الأصلي شيزوكا، لتجنيب عائلتها أية صعوبات قد تواجهها بسبب حالتها الصحية.

عند دخول المصحة، قيل لها إنها من الأفضل أن تستخدم اسماً مختلفاً، وهي عادة شائعة في المنشأة لحماية المرضى وعائلاتهم. تتذكر ياماؤتشي كيف أن هذا سبب لها بعض الارتباك في البداية. فلمّا كانت تكتب رسائل إلى عائلتها باستخدام اسمها المستعار، لا يصلها رد على رسائلها. تقول: ”اعتقدت عائلتي أن الرسائل تصلهم بالخطأ، لم يكلفوا أنفسهم عناء فتح المظاريف، بل وضعوها جانباً بنية إعادتها إلى مكتب البريد“. وبعد مرور عدة أسابيع، تم حل اللغز بفضل زيارة عمها.

كان من غير المعتاد بالنسبة لنزلاء المصحة أن يظلوا على اتصال مع عائلاتهم كما فعلت ياماؤتشي. ولم تتعرض أسرتها لأي معاملة سيئة بفضل زوجة أخيها التي كانت تتجول في الحي لتثقيف الجيران حول مرض هانسن.

تصف ياماؤتشي زوجة أخيها بأنها ”امرأة غير عادية“، فقد كانت تصطحب أطفالها الصغار معها أثناء الزيارات متجاهلة تحذيرات من حولها من أنهم قد يصابون بمرض هانسن، فكانت ترد عليهم قائلةً ”إذا لم يصابوا بالمرض، فسيثبت هذا أنه لا يوجد سبب للقلق والخوف“. وبفضل جهود زوجة أخيها تمكنت ياماؤتشي في النهاية من العودة إلى المنزل في زيارات متكررة.

تكوين أسرة

بالنسبة لياماؤتشي، فإن إقامتها في المصحة ساهمت في توسيع عالمها. عندما علم النزلاء بوصول شابة جديدة، تناوب المرضى الرجال على مطالبتها بالذهاب للتنزه معهم، وبهذه الطريقة التقت بزوجها ياماؤتشي سادامو.

تقول ياماؤتشي إنه عندما عاد الزوجان الجديدان إلى المنزل للإعلان عن زواجهما، تفاجأ الناس في حيها القديم بأن شخصًا مصابًا بمرض هانسن يمكن أن يجد من يتزوجه. تقول ضاحكة: ”يحب زوجي أن يشرب، لذا اعتدت أن أقول مازحةً بأنني تزوجته بدافع الشفقة وأنه بمجرد أن يُصاب بتشمع الكبد، فسوف أذهب للبحث عن حبيب جديد، لكن ذلك المحتال العجوز عاش أكثر من 50 سنة أخرى“.

صورة معلقة على الحائط للسيد سادامو زوج ياماؤتشي، الذي توفي في عام 2010 عن عمر يناهز 86 عامًا.
صورة معلقة على الحائط للسيد سادامو زوج ياماؤتشي، الذي توفي في عام 2010 عن عمر يناهز 86 عامًا.

بشكل أساسي يناقش فيلم Gaika قضية التعقيم القسري للمصابين بمرض هانسن. فبموجب القانون الياباني، يجب تعقيم جميع المصابين بمرض هانسن كشرط أساسي للزواج، بما في ذلك السيد سادامو زوج ياماؤتشي على الرغم من أن المرض ليس وراثيًا. ينظر الفيلم إلى المعاناة النفسية التي تحمّلها هو وآخرون نتيجة لهذه السياسة.

لم تتخل ياماؤتشي وزوجها عن حلمهما في إنجاب الأطفال. كانت ياماؤتشي تبلغ من العمر 67 عامًا عندما عرض رئيس الكهنة في أحد المعابد القريبة على الزوجين تبني فتاة تبلغ من العمر 18 عامًا كانت قد فقدت والديها وهي طفلة صغيرة وأخذت تتنقل بين دور الأيتام ودور الرعاية. وافق الزوجان على تبني الفتاة، وأصبحت مايومي ابنةً لهما، كما سيرزقان أيضًا بأربعة أحفاد بعد أن تزوجت مايومي وأنشأت أسرتها الخاصة، وأنجبت طفلين وتبنت طفلين آخرين.

ياماؤتشي وسادامو يجلسان معًا في مشهد من فيلم Gaika.
ياماؤتشي وسادامو يجلسان معًا في مشهد من فيلم Gaika.

لقد شعر الزوجان برضا لا يوصف لمّا أصبح لديهما أبناء ثم أحفاد. تقول ياماؤتشي: ”تمكن زوجي من حمل أحفاده بين ذراعيه قبل وفاته، وعلى الرغم من إعاقاتي، فقد حققت ذاتي كامرأة. كنت أعلم أن تبني طفل يعني الكثير من العمل الشاق، لكنني اتبعت قلبي ولست نادمة على أي شيء“.

الأطفال هم المستقبل

هناك العديد من المشاهد المؤثرة في فيلم Gaika حيث نرى ياماؤتشي مع ابنتها مستمتعةً بصحبة أحفادها. منذ أن كانت فتاة وهي تؤمن بأهمية التعليم. ورغم أنها نادرًا ما تخرج الآن بسبب جائحة فيروس كورونا، إلا أنها فيما مضى كانت تستمتع باللعب والتفاعل مع الأطفال في إحدى الحضانات المجاورة.

تشاركنا ذكرياتها قائلةً: ” دائمًا يثير شكل يداي فضولهم في البداية، كما يسألون أيضًا عن سبب احمرار عيني وينظرون إليّ بتعاطف عندما أخبرهم أنني لا أستطيع إغلاقهما بشكل صحيح بسبب مرضي وأن الغبار يدخل في عيني“ هذه التفاعلات تجعلها تشعر بالأمل في المستقبل. ”يوجد الكثير من البالغين المتحيزين في العالم اليوم، لكن عندما أتحدث مع الأطفال، أشعر بأنهم سيغيرون الأمور للأفضل“.

في مشهد من فيلم Gaika، تشرح ياماؤتشي إلى مو، التي تعجز عن استخدام يديها بحرية، كيفية تقطيع التفاحة. (2019 Supersaurus)
في مشهد من فيلم Gaika، تشرح ياماؤتشي إلى مو، التي تعجز عن استخدام يديها بحرية، كيفية تقطيع التفاحة. (2019 Supersaurus)

تشارك ياماؤتشي أيضًا قصتها في المدارس ودور التقاعد. وتشير إلى أن كبار السن هم الذين غالبًا ما تكون لديهم صورة نمطية سلبية عن مرض هانسن. تشرح قائلة: ”بعض الناس يكونون عدوانيين للغاية ويستخدمون ألفاظاً مهينة، عندما يحدث ذلك أخبر الشخص بهدوء بأننا لا نستخدم الآن كلمات مثل“ الجذام” في اليابان، بل نقول مرض هانسن. ثم أشرح كيف تغلبت على المرض لأجد لنفسي مكاناً هنا، في هذا العالم“.

وتؤكد أن مثل تلك المواقف غير المحببة هي التي ساعدتها لكي تنمو وتصبح قوية. ”لا شك أن التحدث مع الناس عن تجربتي هو شيء أفعله من أجلهم ولتثقيفهم، ولكنه من أجلي أنا أيضًا“.

منذ أن كانت في السبعين من عمرها، كانت ياماؤتشي تستخدم جهاز كمبيوتر لتدوين يومياتها وكتابة الشعر. إنها ماهرة بنفس القدر في استخدام الكمبيوتر لفرز الصور وتبادل رسائل البريد الإلكتروني وحتى التسوق عبر الإنترنت، وهو أمر تستمتع به كثيرًا حيث تقول: ”عندما أخرج للتسوق، اُضطر دائماً أن أطلب من أحد العاملين بالمتجر أن يجلب لي الأشياء“. تضيف بضحكة خافتة، ”طيلة حياتي كنت أحاول تجنيب الناس مشقة مساعدتي، لذا فإن التسوق عبر الإنترنت هو الجنة بالنسبة لي“.

ياماؤتشي تستخدم جهاز الكمبيوتر الخاص بها.
ياماؤتشي تستخدم جهاز الكمبيوتر الخاص بها.

الحياة أثناء الجائحة

لقد أثارت جائحة كوفيد-19 مخاوف عامة تراها ياماؤتشي مألوفة ومماثلة لتجربتها الخاصة على نحو مقلق. تقول: ”نرى أشخاصًا يسافرون من المدينة إلى الريف لأنهم طُلب منهم العودة إلى منازلهم وأطفالاً يصابون بالفيروس فيتعرضون للتنمر في المدرسة. هذا أمر محزن حقًا، فلا أحد يمرض برغبته ومن غير المقبول أن يُعامل الناس معاملة سيئة فقط لأنهم أصيبوا بالعدوى“.

تتغير النبرة اللطيفة والهادئة في صوت ياماؤتشي مرة واحدة فقط، لتتحول إلى نبرة جادة عندما تتحدث عن الزيادة الحادة في أعداد الشباب الذين ينتحرون منذ بداية الوباء. ”أريد أن أقول للجيل الأصغر إن هناك الكثير الذي يستحق أن تعيشون من أجله“ وتؤكد على التالي. ”الموت هو قدرنا جميعاً في نهاية المطاف، ولكن إلى أن تحين ساعتنا، تظل مهمتنا الأساسية هي مواجهة المصاعب ومواصلة حياتنا. هذا هو مصيرنا“.

لطالما استمدت ياماؤتشي قوتها من والدتها التي ربتها في أحلك الأوقات وعلّمتها أن تتحلى بالشجاعة. تتذكر كيف عانت والدتها في وقت لاحق من حياتها من الخرف وكانت تقول: ”هل هذا أنت ياكيمي؟“ عندما كانت تزورها. تقول ياماؤتشي: ”كانت تستطيع التعرف علي من يدي“. ”أخبرتني ذات مرة أنها احتفظت لي بحبة من فاكهة الكاكي مخبأة بين طيات الأوبي (حزام يُلبس عند منتصف الظهر أثناء ارتداء الكيمونو) في الدرج الثالث من خزانة ملابسها. كان موسم فاكهة الكاكي قد انتهى، لكني ذهبت لأتأكد ودُهشت حين وجدت هناك حبتين من فاكهة الكاكي، قالت إنها أخفتها لي حتى لا يأكلها الآخرون. لقد شعرت حقًا بمدى حب والدتي لي في تلك اللحظة. بالنسبة لي أن أعيش وأكون على ما يرام قدر المستطاع بالرغم من إعاقاتي هي وسيلتي لشكر أمي وإظهار امتناني لها على ما أعطته لي من حب“.

© 2019 SUPERSAURUS
© 2019 SUPERSAURUS

فيلم Gaika (أغاني النصر)

  • بطولة: ياماؤتشي كيمي، ياماؤتشي سادامو ، ناكامورا كينئيتشي، سايتو كورومي، ناكاجيما مو، ساغاوا أوسامو
  • المخرج: ساكاغوتشي كاتسومي
  • المنتج: أوتشياي أتسوكو
  • قام بالتحرير ساكاغوتشي كاتسومي، أوتشياي أتسوكو
  • التوزيع: شركة Supersaurus
  • https://supersaurus.jp/gaika (باليابانية)

(العرض الترويجي باللغة اليابانية)

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنجليزية بالتعاون مع مصحة تاما زنشوين الوطنية. صور المقابلة بواسطة هاناي توموكو).

الطب المجتمع الياباني الحكومة اليابانية