«الصبي ومالك الحزين»... فيلم الأسطورة ميازاكي هاياو الفائز بجائزة غولدن غلوب لأحسن فيلم أنيمي

مانغا وأنيمي

توّج ميازاكي هاياو عقدا خاليا من أفلامه بفيلم ’’الصبي ومالك الحزين‘‘ المتأثر بكتب للأطفال من اليابان وإيرلندا. يأخذ الفيلم المشاهدين إلى عالم من القصص والخيال النقي. وفي هذه المقالة نسلط الضوء على ما قد يكون آخر أعمال ميازاكي.

رحلة إلى عالم آخر

صدرت النسخة اليابانية من أحدث أفلام ميازاكي هاياو في 14 يوليو/تموز، ومن المقرر عرض الفيلم في دور السينما بأمريكا الشمالية في وقت لاحق من هذا العام تحت عنوان The Boy and the Heron (الصبي ومالك الحزين). العنوان الياباني الأصلي مستوحى مباشرة من رواية ليوشينو غينزابورو بعنوان ’’كيميتاتشي وا دو إيكيرو كا (كيف تعيشون؟)‘‘. تحكي الرواية قصة صبي يبلغ من العمر 15 عاما يدعى ’’كوبر‘‘ وتسرد تفاصيل كيف أن الأحداث التي تمر معه في المدرسة والتفاعلات مع الأصدقاء وعمه كلها لعبت دورا في تكوين شخصيته بالإضافة إلى التدبر في مكانته في المجتمع وفي معنى الحياة. تأثر ميازاكي بشدة بالرواية، على الرغم من أن فيلمه الجديد ليس نسخة سينمائية منها.

’’الصبي ومالك الحزين‘‘ من كتابة وإخراج ميازاكي هاياو، ومن إنتاج استوديو جيبلي. يُعرض الفيلم حاليا في دور السينما اليابانية باللغة اليابانية فقط (© 2023 ستوديو جيبلي)
’’الصبي ومالك الحزين‘‘ من كتابة وإخراج ميازاكي هاياو، ومن إنتاج استوديو جيبلي. يُعرض الفيلم حاليا في دور السينما اليابانية باللغة اليابانية فقط (© 2023 ستوديو جيبلي)

يبدأ الفيلم بأصوات صفارات إنذار تحذر من غارات جوية تتردد في سماء طوكيو. في عام 1944 ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، ينزح صبي يُدعى ماكي ماهيتو إلى الضواحي مع والده صاحب مصنع ذخيرة. بعد أن قُتلت والدته في قصف أمريكي، تزوج والده من أختها الصغرى ناتسوكو. يبدأ الثلاثة في العيش معا. ولكن ماهيتو لا يتمكن من تقبل ناتسوكو أو الجنين الذي ينمو في أحشائها، ويبدأ بداية سيئة في المدرسة أيضا.

ثم يسمع ماهيتو والدته تطلب منه المساعدة. يظهر له طائر مالك الحزين رمادي اللون يخبره أنها والدته وأنها لم تمت وأنها تنتظره لينقذها. في اليوم الذي وجد فيه ماهيتو نسخة من ’’كيف تعيشون؟‘‘ الذي تركته والدته له، تختفي ناتسوكو. يذهب ماهيتو للبحث عنها، ويدخل برجا في أحد أركان عقاراتهم. البرج مشيد من قبل عم ناتسوكو، وهو قارئ نهم اختفى أيضا. يسافر ماهيتو سويا مع مالك الحزين إلى عالم آخر، حيث يلتقي مجموعة من الشخصيات الغامضة. . .

وفقا لكتاب ’’قصة استوديو جيبلي‘‘ لعام 2023 والذي حرره المنتج سوزوكي توشيو، فقد سلم ميازاكي مقترح الفيلم إلى سوزوكي في يوليو/تموز عام 2016. الفيلم مستوحى من رواية للأطفال كتبها بقلم الكاتب الإيرلندي جون كونولي بعنوان ’’كتاب الأشياء المفقودة‘‘، واعتقد سوزوكي الذي كان قد اطلع على الرواية، أن المقترح مناسب لأن يكون فيلما طويلا. ولم يتم اختيار اسم الفيلم إلا أثناء إنتاجه. وبعبارة أخرى، لم تكن نقطة البداية لفيلم ميازاكي من رواية يوشينو اليابانية الكلاسيكية.

ميازاكي يعيد رواية القصص

يُعرف ميازاكي بأنه مبتكر عظيم للعوالم، كما هو الحال في فيلم ’’ناوسيكا أميرة الرياح‘‘ و ’’قلعة في السماء‘‘ و ’’الأميرة مونونوكي‘‘. كما أنه قارئ نهم للقصص من كل حقبة وجزء من العالم، حيث يعدلها ويعيد سردها. من بين الأمثلة المستوحاة من قصص خيالية أو من أعمال مانغا (قصص مصورة) فلما ميازاكي ’’كيكي لخدمة التوصيل‘‘ و ’’قلعة هاول المتحركة‘‘، بالإضافة إلى أعمال كتب نصها مثل ’’آريتي المقترضة‘‘ و ’’من أعلى تلة الخشخاش‘‘.

يروي ميازاكي في فيلمه ’’مهب الرياح‘‘ قصة مهندس طيران من الواقع اسمه هوريكوشي جيرو، ودمج فيه عناصر من رواية تحمل الاسم نفسه لهوري تاتسوؤ (عنوان الرواية باللغة اليابانية ’’كازي تاتشينو‘‘). أما فيلم ’’بونيو على جرف البحر‘‘ فهو منتج على غرار مسرحية ’’الحورية الصغيرة‘‘ لهانس كريستيان أندرسن مع أخذ رواية ’’مون (البوابة)‘‘ لناتسومي سوسيكي كعنصر كثير التكرار. عند كتابة سيناريو فيلم ’’حكايات من أراضي البحار‘‘، جمع ميازاكي سلسلة ’’أراضي البحار‘‘ لأورسولا كي لو غوين مع المانغا الخاصة به ’’شونا نو تابي (ترجمها Alex Dudok de Wit في عام 2022 إلى ’’رحلة شونا‘‘). كما أن أصول قصتي الفيلمين ’’جاري توتورو‘‘ و ’’المخطوفة‘‘ تعود إلى ’’القط البري والبلوط‘‘ لمييازاوا كينجي و ’’القرية العجيبة الغارقة في الضباب‘‘ لكاشيوابا ساتشيكو، على الترتيب، وكانت قد أثرت على الأقل في الصورة النهائية للفلمين.

وبنفس الطريقة توفر رواية كونولي لعام 2006 ’’كتاب الأشياء المفقودة‘‘ إطارا فضفاضا لفيلم ’’الصبي ومالك الحزين‘‘. وقد كتب على النسخة اليابانية من الكتاب بشكل بارز إشادة من ميازاكي بالعمل.

الشخصية الرئيسية في هذه الرواية صبي يُدعى ديفيد، توفيت والدته بسبب المرض في عام 1939. غادر منزله المألوف في لندن ليعيش في عقار تملكه زوجة والده الجديدة روز التي سرعان ما تصبح حاملا. يرفض ديفيد والدته الجديدة وشقيقه الأصغر، حيث يواصل المكوث في غرفة بها أرفف مليئة بالكتب. كانت هذه غرفة عم روز الذي اختفى عندما كان يبلغ 14 عاما. يظهر لديفيد في أحلامه الرجل الملتوي والذي يدخله ذات ليلة إلى عالم آخر من الحديقة.

هناك الكثير من أوجه التشابه بين كتاب الأشياء المفقودة والصبي ومالك الحزين مثل موت الأم والنزوح والعائلة الجديدة والعقار والكتب والعم الضائع وحضور كائن غريب (مالك الحزين والرجل الملتوي)، والرحلة معا إلى عالم آخر. أخبر الرجل الملتوي ديفيد أيضا أن والدته لا تزال على قيد الحياة، ويمكنه إعادتها بالذهاب إلى العالم الآخر. وفي ذاك العالم هناك شخصيات من قصص خيالية مثل ’’ذات الرداء الأحمر‘‘ و ’’بياض الثلج‘‘ و ’’هانسيل وغريتيل‘‘ تُروى قصتها من جديد.

لم يقم ميازاكي – بطبيعة الحال – ببساطة بتكييف كتاب الأشياء المفقودة بشكل مباشر. فهناك تفاصيل من شباب ميازاكي مختلطة مع قصة الفيلم تلك. من المفترض أن المشهد الافتتاحي من الفيلم متأثر بذكريات المخرج عن فراره من القصف مع عائلته عندما كان في الرابعة من العمر، بينما من المعروف أن والده كان يدير مصنعا للذخيرة. مالك الحزين الذي لن يترك ماهيتو قد يكون صمم ليكون بمثابة سوزوكي. إن المزج بين الحقيقة والخيال يشجع على التكهن بشأن العلاقة بين الشخصيات من الفيلم والأشخاص الحقيقيين.

تدفق الصور

وهكذا فإن ميازاكي المولود في عام 1941، مرتبط بذكرياته الخاصة عن الطفولة برواية تعود لعام 1937 بعنوان ’’كيف تعيشون؟‘‘ و ’’كتاب الأشياء المفقودة‘‘ الذي تدور أحداثه في عام 1939. يصور الفيلم كيف أدت مغامرات ماهيتو في عالم آخر إلى اكتشافات تتعلق بعلاقته مع عائلته والعالم. وهنا نرى التأثير الموضوعي لرواية ’’كيف تعيشون؟‘‘ على الرغم من أنها لا تشكل القصة.

لكن ما يجعل الفيلم مميزا للغاية هو أنه ليس مباشرا كما يبدو للوهلة الأولى. فمع تقدم الأحداث في الفيلم يتحول التركز إلى سيل الصور المتدفقة من خيال ميازاكي، بدلا من قصته أو المواضيع التي يثيرها. البرج الذي يحمل مفتاح القصة مقتبس من رواية ’’البرج المسكون‘‘ لإدوغاوا رانبو والتي كان ميازاكي من أشد المعجبين بها عندما كان صبيا. يلتقي ماهيتو أيضا في العالم الآخر بسلسلة من الشخصيات تذكرنا بأعمال سابقة للمخرج. لكن هذا ليس مجرد خدمة للجماهير، بل بالأحرى يمكن أن يطلق عليه تكريم للذات أو الرجوع إلى أعمال سابقة للمخرج.

ومثلما يسافر ديفيد عبر عالم مكون من حكايات معروفة في كتاب الأشياء المفقودة، يقوم ماهيتو برحلة عبر قصص سابقة لميازاكي أو مشاهد تبدو أنها من حياة المخرج. فعلى سبيل المثال هناك مشهد يذكر بقلعة كاجليسترو، وهناك شخصيات تشبه شخصيات ’’قلعة في السماء‘‘ و ’’المخطوفة‘‘، بالإضافة إلى أشخاص مقربين من ميازاكي. وعلى الرغم من أن الفيلم لا يصور بشكل مباشر ميازاكي نفسه، إلا أنه يسلط الضوء على وجوده كمبدع للعمل.

يبدأ الفيلم نفسه في اتخاذ شكل يشابه العالم الذي يسافر عبره ماهيتو. ومع تحول السيل المتدفق من الصور إلى محرك رئيسي للفيلم بدلا من القصة، يصبح من المستحيل تشكيل رؤية ثابتة عن العالم الآخر. وهناك أيضا فترة من الكوابيس، مثل أشياء من ديفيد لينش. وبما أن العالم لا يستند إلى قصة واحدة، فإن من الطبيعي أن يصبح الفيلم غير مستقر وصعب المتابعة. وهذا يشبه كيفية حفاظ حارس العالم – الذي يظهر لماهيتو – على توازنه من خلال تكديس أحجار غير مستقرة.

دفن الحارس نفسه في عالم خالٍ من أي شيء سوى القصص بهدف حماية العالم والقصص. يحمل الحارس تلك القصص ويتصرف كما لو كان منشئ العالم، ليبدو مثل ميازاكي نفسه. ومع دخوله إلى المشهد تنتقل قصة ’’الصبي ومالك الحزين‘‘ نحو نهايتها، كما لو أن دوره كان إنهاءها، بشكل يشابه إلى حد ما كومة من الحجارة تنهار في لحظة.

رسالة ميازاكي

عندما عدل ميازاكي في مايو/أيار عام 2017 عن قرار تقاعده الذي أعلنه بعد فيلم ’’مهب الرياح‘‘، جاء في بيان أصدره استوديو جيبلي أنه ’’من المحتمل أن يكون فيلمه التالي هو الأخير حقا، بالنظر إلى سنه‘‘. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يريد ميازاكي أن ينقله إلى جمهوره اليوم؟

في كتاب صدر عام 2011 بعنوان ’’مدخل إلى الكتب: الحديث عن غلاف إيوانامي بويز‘‘، كتب ميازاكي عن رواية ’’الصف الطائر‘‘ لإريك كاستنر حيث قال ’’لقد أعطتني نفس الشعور الذي شعرت به مع ’’كيف تعيشون؟‘‘ ليوشينو غينزابورو‘‘. ويضيف أن القصة التي نشرت ما قبل الحرب كانت تحمل هواجس من الكارثة القادمة، ومع ذلك فهي مكتوبة لتشجيع القراء على أن يكونوا طموحين.

يعرِّف ميازاكي – الذي اطلع على عدد لا يحصى من القصص خلال حياته – أدب الأطفال بأنه قصص يمكن التراجع فيها عن الأشياء التي نقوم بها وتحسينها. ويكتب ميازاكي أن كتب الأطفال تعلم أنه حتى لو لم تسير الأمور على ما يرام فسوف تتحسن مع المحاولة الثانية، وأن كونك على قيد الحياة هو بحد ذاته أمر جيد. وينظر ميازاكي إلى ’’كيف تعيشون؟‘‘ كرواية تخاطب الجيل القادم عندما كان المستقبل بعيدا عن أن يكون مشرقا. لا بد وأنه استقى شيئا مشابها من ’’كتاب الأشياء المفقودة‘‘ بالنظر إلى أحداثه التي تدور في زمن الحرب.

إن دمج ميازاكي للعملين مع عنوانه الياباني لفيلم ’’كيف تعيشون؟‘‘ يشير إلى أنه ابتكر للمشاهدين – في عصر تلوح فيه كارثة – شكلا من أشكال ’’أدب الأطفال‘‘، حيث يخبرهم أنهم قادرون على التراجع عن الأشياء التي قاموا بها. دفن المخرج نفسه في عالم من القصص لمدة 82 عاما، استمر فيها في سرد قصصه الخاصة، تاركا وراءه روائع في تاريخ السينما. وعمله الأخير المتحرر من كل القيود، ينقل رسالة أمل جريئة وقوية.

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية بتاريخ 21 يوليو/تموز عام 2023. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: ملصق فيلم ’’الصبي ومالك الحزين‘‘ وهو أول فيلم لميازاكي هاياو منذ عقد من الزمن، الصورة ملتقطة في طوكيو بتاريخ 18 يوليو/تموز عام 2023، © جيجي برس)

مانغا المانغا أنيمي غيبلي