الكفاح من أجل الحصول على الاعتراف: المحنة الطويلة للناجين من ”المطر الأسود“

مجتمع

بعد مرور 75 عامًا على قصف هيروشيما، تم تعريف السكان الذين تعرضوا لـ ”المطر الأسود“ المشع الذي غمر المدينة وضواحيها في أعقاب الانفجار أخيرًا بمصطلح هيباكوشا، (أو ضحايا القنبلة الذرية). كما جرى منحهم بالمزايا الطبية المكفولة للناجين الآخرين من القنبلة الذرية.

في اليابان، يمكن لأي شخص معترف به كأحد الناجين من القصف الذري لهيروشيما وناغاساكي، أو ما يطلق عليه م هيباكوشا باللغة اليابانية، الحصول على رعاية صحية مجانية ومزايا حكومية أخرى بموجب قانون مساعدة الناجين من القنبلة الذرية. وتستخدم ”كتيبات الصحة الخاصة بالهيباكوشا“ التي تسلم للناجين المعتمدين كبطاقات تأمين صحي تكميلية، مما يمنح حامليها الحق في الخضوع لفحوصات طبية دورية، الفحوصات، والعلاج الطبي.

ولكن حتى الآن، يُحرم العديد من الناجين من القنبلة الذرية من هذه الميزات، على الرغم من تعرضهم للإشعاع عن طريق ما يعرف بـالمطر الأسود.

جزء من جدار من الجص يحمل آثار المطر الأسود. (صورة مقدمة من متحف هيروشيما التذكاري للسلام)
جزء من جدار من الجص يحمل آثار المطر الأسود. (صورة مقدمة من متحف هيروشيما التذكاري للسلام.

لعنة القميص الأسود

لا يزال هونكي مينورو، 80 عامًا، يعيش في المنزل الذي ولد به فيما يعرف الآن باسم حي سائيكي في هيروشيما الواقع في تلال شمال غرب المدينة. وتقع قريته على بعد 19 كيلومترًا تقريبًا من مركز الانفجار الذري. وفي صباح يوم 6 أغسطس/ آب 1945، كان مع والدته وشقيقه الأصغر في الشرفة الأرضية بالبيت الريفي للأسرة، يشاهد مزارعين يجمعان الحزم في حقل قمح مجاور.

ويتذكر ذلك قائلاً ”فجأة، كان هناك وميض وصوت غير عادي مثل الرعد“. ”تصاعدت سحابة رمادية من التلال، وأظلمت الدنيا بشكل مخيف. بعد فترة، بدأت ما بدا وكأنها قصاصات محترقة من الصحف تتساقط من السماء. وقال جيراننا يبدو أن شيئًا ما قد حدث في هيروشيما، وأخبرونا ألا نلمس أيًا من القمامة التي تطير حولنا، لأنها قد تكون خطيرة“.

هونكي مينورو بالقرب من منزله في يوكيتشو في حي سائيكي في هيروشيما. (تصوير دون هيروكو)
هونكي مينورو بالقرب من منزله في يوكيتشو في حي سائيكي في هيروشيما. (تصوير دون هيروكو)

في وقت لاحق، عندما كان هونكي وشقيقه يلعبان في الخارج، تحولت السماء إلى اللون الأسود، وبدأت تمطر. وعندما ذهبا إلى الداخل، لاحظ أن المطر قد ترك بقعًا داكنة على قميص أخيه.ويقول هونكي ”لن أنسى ذلك أبدًا“. ”لقد تعرضت للأمطار السوداء. لقد ترعرعت وأنا أشرب الماء التي تتدفق من تلك الجبال وأتناول الخضروات التي تروى بها. وعندما كنت طفلاً، كنت أعاني من نزيف في الأنف طوال الوقت. وفي بعض الأحيان، عندما كنت أغسل وجهي في الصباح، كان أنفي ينزف بشكل مستمر دون توقف. ومع ذلك، فإن الحكومة رسمت مجرد خطًا على الخريطة، حتى دون إجراء مسح سليم. كيف يمكننا قبول ذلك؟ “

ترسيم ظالم للمناطق المنكوبة

في عام 1976، وضعت الحكومة اليابانية برنامجًا جديدًا يقدم المزايا الطبية الخاصة للناجين من ”المطر الأسود“ خارج منطقة التعرض للإشعاع التي تم ترسيمها وتحديدها سابقًا. ومع ذلك، كانت الأهلية مقتصرة على أولئك الموجودين داخل ”منطقة الأمطار الغزيرة“ لخريطة هطول الأمطار التي وضعها ضابط الأرصاد الجوية المحلي أودا ميتشيتاكا وموظفيه قبل سنوات على ذلك، بناء على مسح أجري في أعقاب التفجير. وأصبح الأشخاص داخل المنطقة المحددة مؤهلين لإجراء فحوصات جسدية مجانية، فحوصات السرطان، واختبارات تشخيصية أخرى، ومنحوا كتيبات صحية عن الهيباكوشا عند تشخيصهم بأي من عدد من الأمراض المحددة، بما في ذلك السرطان ونقص في عدد كريات الدم البيضاء وإعتام عدسة العين. وفي المقابل حُرم أي شخص خارج ذلك النطاق، أي في ”منطقة الأمطار الخفيفة“، من هذه المزايا.

خريطة هطول الأمطار تحدد مدى هطول الأمطار السوداء بعد قصف هيروشيما، بناءً على مسح أجراه مرصد الأرصاد الجوية لمنطقة هيروشيما. (متحف إيباياما للأرصاد الجوية، هيروشيما)
خريطة هطول الأمطار تحدد مدى هطول الأمطار السوداء بعد قصف هيروشيما، بناءً على مسح أجراه مرصد الأرصاد الجوية لمنطقة هيروشيما. (متحف إيباياما للأرصاد الجوية، هيروشيما)

كان النظام مثيرًا للجدل منذ البداية. ففي بعض الحالات، يتم قطع الخط الذي يفصل بين مناطق هطول الأمطار ”الغزيرة“ و ”الخفيفة“ عبر قرية أو حي. وكانت قرية هونكي إحدى هذه الأمثلة. فقد تم تضمين كل شيء إلى الجنوب من نهر مينوتشي في ”منطقة الأمطار الغزيرة“، بينما تم استبعاد جميع منازل الضفة الشمالية، بما في ذلك قرية هونكي. ويلاحظ هونكي أنه في بعض الحالات، كانت الموافقة على المزايا أو رفضها تعتمد على الطريق الذي سلكه الطفل في المشي في يوم القصف.

يشير هونكي مينورو إلى المنطقة الواقعة جنوب نهر مينوتشي، والتي أصبح سكانها مؤهلين للحصول على مزايا الرعاية الصحية هيباكوشا في عام 1976. بينما ظل أولئك الذين يعيشون على الضفة اليمنى من النهر، بما في ذلك سكن هونكي غير مؤهلين. (تصوير دوني هيروكو)
يشير هونكي مينورو إلى المنطقة الواقعة جنوب نهر مينوتشي، والتي أصبح سكانها مؤهلين للحصول على مزايا الرعاية الصحية هيباكوشا في عام 1976. بينما ظل أولئك الذين يعيشون على الضفة اليمنى من النهر، بما في ذلك سكن هونكي غير مؤهلين. (تصوير دوني هيروكو)

يقول هونكي ”أصيبت والدتي بإعتام عدسة العين والزرقاء وفقدت بصرها“. ثم توفيت بسرطان المرارة. لقد أجريت 3 عمليات لعلاج إعتام عدسة العين، والآن لازلت أعاني من المياه الزرقاء. وأتساءل بطبيعة الحال ما مدى تأثير التعرض للإشعاع في الإصابة بكل هذه الأمراض. فبينما تحدث الجميع هنا عن المطر الأسود، لكن الحكومة لم ترسل أي شخص لمقابلتنا ”.

تجاهل نتائج الاستطلاع الجديدة

في أواخر الثمانينيات، قدم ماسودا يوشينوبو، وهو مسؤول متقاعد من وكالة الأرصاد الجوية اليابانية، نتائج بحثه الخاص، الذي خلص إلى أن المطر الأسود سقط على منطقة أوسع مما كان يفترض سابقًا. وبين عامي 2008 و2010، قامت محافظة هيروشيما ومدينة هيروشيما بمسح السكان المحليين لتحديد الآثار الصحية للقنبلة. وقام الخبراء، الذين قاموا بتحليل أكثر من 30 ألف استبيان مكتمل، بوضع خريطة جديدة لهطول الأمطار توضح هطول الأمطار السوداء بشكل كبير على نطاق أوسع بحوالي 6 مرات من المنطقة المحددة.

في عام 2010، بناءً على هذا المسح، قدم محافظ هيروشيما وعمدة مدينة هيروشيما و7 بلديات مجاورة التماسًا للحكومة المركزية لتوسيع نطاق مزايا الهيباكوشا إلى منطقة أكبر بكثير. (ولكن لم يغيروا موقعهم، على خريطة ”المطر الأسود“ المعروضة في متحف هيروشيما التذكاري للسلام، تبرز المنطقة الموسعة بشكل حاد، مرسومة بخط أحمر واضح).

شكلت وزارة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية لجنة لدراسة الطلب، ولكنها أعلنت في عام 2012 أنها لن توسع حدود منطقة الأمطار السوداء.

معرض ”المطر الأسود“ في متحف هيروشيما التذكاري للسلام.
معرض ”المطر الأسود“ في متحف هيروشيما التذكاري للسلام.

وفي النهاية، قرر سكان المنطقة المستبعدة عرض قضيتهم على المحكمة. وفي عام 2015، رفعت مجموعة مكونة من 88 مواطنًا دعوى قضائية جماعية أمام محكمة هيروشيما، مطالبين بنفس مزايا الرعاية الصحية الممنوحة لضحايا القنبلة الذرية ”هيباكوشا“. وبحلول ذلك الوقت، كان قد مرّ بالفعل سبعة عقود منذ قصف هيروشيما.

أنا من الهيباكوشا

أحد قادة الكفاح لتوسيع حدود منطقة الأمطار السوداء هو تاكاتو سيجي، 79 عامًا، وهو من سكان حي سائيكي. وكان تاكاتو، المدرس السابق بالمدرسة الثانوية، قد انضم إلى القضية في عام 2002، بعد تقاعده. وفي ذلك العام، جاءت إليه زميلته السابقة لمشاركة مخاوفها بشأن العدد الكبير من السكان المحليين الذين يبدو أنهم يموتون بسبب أمراض لم يتم تشخيصها. وتعهد الاثنان باستدعاء المواطنين المرضى في قرية ياواتا السابقة الواقعة على بعد 9 كيلومترات غرب مركز انفجار القنبلة الذرية.

ويتذكر تاكاتو ”لقد فقد الكثير من الأشخاص الذين قمنا بزيارتهم إرادة العيش“. ”أحد الرجال الذين رأيناهم أبعدنا قائلًا:“ اسمع، لن أتحسن أبدًا، ولا يمكنني تحمل نفقات الذهاب إلى المستشفى على أي حال، لذا فقط دعني وشأني! ”لقد كانت صدمة كبيرة“.

وبالسؤال، تأكد تاكاتو أن المطر الأسود قد سقط بالفعل على القرية بعد القصف. ولكن لأنها تقع خارج ”منطقة الأمطار الغزيرة“ في أودا، حُرم السكان من الكتيبات الصحية الخاصة بالهيباكوشا وفقدوا الأمل في الحصول على الرعاية الطبية المناسبة.

وعندها قرر تاكاتو القتال من أجل توسيع منطقة المطر الأسود المحددة من قبل الدولة. وأسس مجموعة تمثيل للمواطنين، جمعية المطر الأسود في حي سائيكي. وحضر أكثر من 100 من أعضاء المجتمع إطلاق المجموعة، مما يدل على وجود قلق واسع النطاق من الآثار طويلة المدى الناتجة عن التعرض للمطر الأسود.

ومن المفارقات أن تاكاتو نفسه لا يتذكر المطر الأسود. فقد كان عمره حينها 4 سنوات فقط، حيث كان يعيش في قرية تقع غرب ”منطقة الأمطار الغزيرة“. ولكنه يتذكر رؤية وميض، وسماع صوت ارتطام كبير، ومشاهدته لتحول سماء هيروشيما للون الأحمر وأسدل الظلام ستائره حولهم. لكنه يعترف بأنه لا يتذكر أي شيء تقريبًا مما تلى ذلك.

كان تاكاتو مريضًا إلى حد ما عندما كان طفلاً وكان عليه أن يخضع لعملية جراحية لتضخم العقد الليمفاوية، ولكن نظرًا لأنه لم يعاني من أي مشاكل صحية كبيرة لسنوات بعد ذلك، فإنه لم يفكر كثيرًا في المخاطر الصحية الناجمة عن التداعيات النووية. كما أوضح في شهادته عن الدعوى الجماعية، أنه بدأ في التفكير في كونه من الهيباكوشا، فقط بعد عقود من الحادث، عندما أجرى مقابلة مع جارة كان عمرها 14 عامًا وقت التفجير. أخبرته كيف سرعان ما عادت إلى المنزل من المدرسة في شبه الظلام، ونظفت الرماد المتساقط، والهباب، والحطام من زيها المدرسي. ”عند الاستماع لها، أدركت أنني في الأغلب قد تعرضت للإشعاع بسبب تلك التداعيات.

تاكاتو سيجي. (تصوير Nippon.com).
تاكاتو سيجي. (تصوير Nippon.com).

وفي ربيع عام 2019، تم تشخيص تاكاتو بمرض القلب الناتج عن ارتفاع ضغط الدم وقضى أسبوعين في المستشفى بعد تعرضه لسكتة دماغية طفيفة. وفي بداية هذا العام، تم إدخاله إلى المستشفى مرة أخرى بسبب عدم انتظام ضربات القلب. ويعد مرض القلب الناتج عن ارتفاع ضغط الدم من بين الاضطرابات المدرجة على أنها ”من المحتمل أن تكون مرتبطة بالتعرض للإشعاع“ بموجب قانون مساعدة الناجين من القنبلة الذرية.

عمقت هذه الأزمات الصحية تعاطف تاكاتو مع محنة المسنين اليابانيين الناجين من القنبلة وأكدت إحساسه بالهوية. فيقول: ”أنا من الهيباكوشا، وأنا مصمم على أن تمضي الدعوى القضائية حتى نهايتها“.

عدالة متأخرة

منذ البداية، كان التركيز الأساسي لـ ”دعوى المطر الأسود“ هو دقة تحديد الحكومة لمنطقة الأهلية. يقول المحامي تاكيموري ماساياسو، الذي يقود الفريق القانوني للمدعين ”لا يوجد أساس سليم لتقييد مزايا الرعاية الصحية للأشخاص في منطقة الأمطار الغزيرة في البداية“. ”علاوة على ذلك، فإن “دراسة أودا” التي وفرت الأساس لترسيم الحكومة في ظل قيود مادية وزمنية خطيرة. فخلال الاضطرابات التي أعقبت القصف، لم يكن هناك طريقة تمكنهم من مسح المناطق النائية حيث يوجد المدعون.

بدا تاكيموري واثقًا من الحصول على حكم في صالح دعواه. وقال ”مهما كانت النظرة للأمر، من المؤكد أن ضحايا المطر الأسود عرضة للتأثير الصحي للإشعاع المؤين من القنبلة الذرية“. ”بالنظر إلى القصد من قانون مساعدة الناجين من القنبلة الذرية، من الواضح أنه يجب تغطية المدعين بمزايا الرعاية الصحية“.

واختتم محامو الجانبين مرافعاتهم الشفوية في يناير/ كانون الثاني 2020. وبحلول ذلك الوقت، كان قد توفي بالفعل 13 من أصل 88 مدعياً. بينما توفي 3 آخرون في الأشهر التي تلت ذلك. وتتراوح أعمار الـ 72 الباقين من 75 عامًا (كانوا في عمر أربعة أشهر عند التعرض) إلى 96 عامًا.

في 29 يوليو/ تموز، حكم القاضي تاكاشيما يوشيوكي من محكمة هيروشيما الجزئية لصالح المدعين وأمر السلطات بالاعتراف بالمجموعة على أنها من الهيباكوشا، مما أدى أتم نضالهم الطويل من أجل الحصول على الاعتراف بهم.

وبلغ عدد حاملي كتيب الصحة هيباكوشا ذروته في عام 1980 بحوالي 372 ألف شخص. وحتى مارس/ آذار عام 2020، لم يكن هناك سوى 136,682 شخصًا متبقيًا، وكان متوسط ​​عمرهم 83.3 سنة. ولكن الحكم يضغط على الحكومة لتوسيع الفوائد الصحية لتشمل مجموعات أخرى من الهيباكوشا الذين جرى إهمالهم لفترة طويلة.

عل أي حال، لم تكن ”دعوى المطر الأسود“، أول إجراء قانوني تم تنفيذه نيابة عن الناجين اليابانيين من القنبلة الذرية خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ولكنها قد تكون الأخيرة.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية. الترجمة من الإنكليزية. إعداد وكتابة إيشيئي ماسوتو من .Nippon.com صورة العنوان: المدعون والداعمون لهم في ”دعوى المطر الأسود“ يحتفلون بفوزهم خارج محكمة مقاطعة هيروشيما في 29 يوليو/ تموز 2020. جيجي برس)

هيروشيما الحرب الصينية اليابانية الحرب العالمية الثانية الحرب العالمية الأولى ناغاساكي