العلاقات بين الشعوب أهم.. كيف نجحت تايوان في حشد الرأي العام الياباني والأمريكي لصالح قضية استقلالها

سياسة

مضى نصف قرن منذ أن قطعت اليابان علاقاتها الرسمية مع تايبيه لتعزيز علاقاتها مع جمهورية الصين الشعبية. أما الولايات المتحدة فقد تريثت ولم تتخذ نفس الخطوة إلا بعد مرور ست سنوات، وحرصاً من أمريكا على إقامة علاقات جيدة مع تايوان، حتى وإن كانت علاقات غير حكومية، قام الكونغرس بسنّ قانون العلاقات مع تايوان في عام 1979 مما عزز العلاقات مع الجزيرة. فما الذي يمكن أن تتعلمه اليابان من هذه الخطوة في إطار تقوية علاقاتها مع تايوان؟

قرار مفاجئ من إدارة كارتر يربك العالم

إن أحد الاختلافات الرئيسية بين النهجين الياباني والأمريكي في العلاقات مع تايوان (جمهورية الصين) هو قانون العلاقات مع تايوان الذي أصدرته الولايات المتحدة في أبريل/ نيسان 1979، وكانت ولادة هذا القانون متعسرة لما صاحبها من صراعات خلف الكواليس بين إدارة الرئيس جيمي كارتر، التي نُسب إليها الفضل في تطبيع العلاقات الأمريكية مع جمهورية الصين الشعبية، والجمهوريين الداعمين لتايوان في الكونغرس.

في ديسمبر/ كانون الأول 1978، أعلن الرئيس كارتر أن حكومة الولايات المتحدة قررت قطع العلاقات الدبلوماسية مع تايبيه في يناير/ كانون الثاني 1979 وتطبيع العلاقات مع بكين. لم يتم إبلاغ الرئيس التايواني في ذلك الوقت ”شيانغ تشينغ كو“ بهذا القرار إلا قبل ساعات قليلة من الإعلان عنه. وخوفا من التسريبات، لم تقم إدارة كارتر بإحاطة الكونغرس بالقرار قبل الإعلان عنه. وقد كان لهذا القرار ردود أفعال سريعة في تايبيه وواشنطن العاصمة، حيث سارعت سفارة جمهورية الصين إلى تدمير الوثائق الدبلوماسية، وتغيير الحسابات المصرفية، وبيع مقر الإقامة الرسمية لسفير جمهورية الصين إلى مشترٍ خاص.

بسبب العاصفة السياسية التي أثارتها إدارته بعد قرار قطع العلاقات الرسمية مع تايبيه، بادر الرئيس كارتر إلى تقديم مشروع قانون إلى الكونغرس لتمكين إقامة علاقات عمل غير رسمية مع تايوان. ومع ذلك، رفض المشرعون مشروع القانون الأصلي لأنه كان لا ينص بوضوح على التزام أمريكا بالحفاظ على سلام وأمن تايوان. لكن بعد خضوع مشروع القانون الأصلي لمراجعات مكثفة، تم تمرير قانون العلاقات مع تايوان في أبريل/ نيسان 1979.

يتألف القانون من 18 مادة ويحدد القسم 2 (ب) من قانون العلاقات مع تايوان ”TRA“ السياسة الرسمية للولايات المتحدة فيما يتعلق بتايوان. وينص على أن:

  • السلام والاستقرار في منطقة (غرب المحيط الهادئ) يصب في المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة، وهي أمور تحظى باهتمام دولي.
  • قرار الولايات المتحدة بإقامة علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية يعتمد على توقع بأن مستقبل تايوان سيتم تقريره بالوسائل السلمية.
  • أي محاولة لتقرير مستقبل تايوان بوسائل أخرى غير الوسائل السلمية، بما في ذلك المقاطعة أو الحظر، [تمثل] تهديدًا للسلام والأمن في منطقة غرب المحيط الهادئ وتعتبر مثار قلق بالغ للولايات المتحدة،
  • ستزود الولايات المتحدة تايوان بأسلحة ذات طابع دفاعي، و
  • ستحتفظ الولايات المتحدة بالحق في مقاومة أي لجوء للقوة أو غيرها من أشكال الإكراه التي من شأنها أن تعرّض أمن الشعب التايواني أو نظامه الاجتماعي أو الاقتصادي للخطر.

التقارب مع الصين نكايةً في روسيا

لم يكن قانون العلاقات مع تايوان مجرد نتاجاً للصراع الدائر بين الأحزاب الديمقراطية والجمهورية، أو بين الفرعين التنفيذي والتشريعي للحكومة، بل إن تاريخه يعود إلى حرب المحيط الهادئ. وحتى وقت صدور قرار الأمم المتحدة بطرد تايوان من المنظمة في عام 1971 كانت جمهورية الصين صديقة وحليفة للولايات المتحدة، فقد قاتلت الصين جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت حليفاً قويًا مناهضًا للشيوعية خلال أوائل الحرب الباردة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس نيكسون لم يكن أمامه خيار آخر سوى التقارب مع بكين من أجل احتواء الاتحاد السوفيتي استراتيجياً، إلا أن العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان تعمّقت إلى ما هو أبعد من المستوى الدبلوماسي لتشمل علاقات حميمة بين القطاع الخاص في البلدين وبين الشعبين.

قطعاً كانت هناك انتقادات داخل الولايات المتحدة لنظام الحكم الاستبدادي والفاسد الذي كان على رأسه الأب ”شيانج كاي شيك“ ومن بعده الابن ”تشيانغ تشينغ كو“، إلا أن وجود احتمال بأن يتم توحيد تايوان بالقوة من قبل نظام شيوعي في المستقبل كان غير مقبول على الإطلاق. فخلال أكثر من ست سنوات من مفاوضات التطبيع بين الولايات المتحدة والصين، كانت بكين ترفض الالتزام بعدم اللجوء إلى القوة لإعادة الاتحاد مع تايوان. لذلك كان مستقبل الشعب التايواني وسلامته الشاغل الأكبر للكونغرس الأمريكي سواء كان خاضعًا لسيطرة الديمقراطيين أو الجمهوريين.

خلال الحرب الكورية، أرسلت بكين جيش التحرير الشعبي زاعمةً أنه ”قوة متطوعة“ لدعم كوريا الشمالية، ودخلت القوات الصينية في صراع مباشر مع قوات الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة مما أدى إلى توترات وتعقيدات كبيرة في العلاقات بين بكين وواشنطن. ثم جاء توقيع إدارة دوايت ديفيد أيزنهاور عام 1954 على معاهدة الدفاع المشترك بين الصين وأمريكا، والتي تلزم أمريكا بالدفاع عن تايوان، ليكون دليلاً واضحاً على ازدياد الحذر الأمريكي تجاه بكين. وعلى الرغم من انتهاء صلاحية المعاهدة بعد عام واحد من تطبيع العلاقات مع بكين، إلا أن إقرار قانون العلاقات مع تايوان ضمن بقاء العلاقات القوية بين الولايات المتحدة وتايوان على نحو لا يختلف كثيراً عن التحالف الرسمي.

دور الكونغرس في مساندة قضية تايوان

يمثل قانون العلاقات مع تايوان منطقة مفخخة في الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين، وتميل المناقشات التي تدور حوله إلى التأكيد فقط على أهدافه الأمنية، مثل الالتزام بتزويد تايوان بأسلحة دفاعية. لكن الدعم العسكري ليس الإنجاز الوحيد لقانون العلاقات مع تايوان. ففي أبريل/ نيسان 2019، وبمناسبة الذكرى الأربعين لسنّ قانون العلاقات مع تايوان، ألقت تساي إنغ وين رئيسة تايوان الكلمة الرئيسية في مؤتمر عبر الفيديو شاركت فيه ثلاث مؤسسات بحثية رئيسية مقرها واشنطن العاصمة منها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وفي تصريحاتها أشارت الرئيسة تساي إلى أنه ”بفضل إصرار الكونغرس على تبني سياسات تضمن أمن تايوان، نجحت تايوان في تجاوز أحلك الظروف، وتمكنت من تحويل نفسها إلى مجتمع حر وديمقراطية قوية يشهد لها العالم اليوم“.

من مزايا قانون العلاقات مع تايوان أيضًا إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون بين الولايات المتحدة وتايوان في مجموعة واسعة من المجالات التي تتنوع ما بين الاقتصاد والتجارة والثقافة وتعزيز احترام القيم العالمية والتبادلات الشخصية، ولقد كان لهذه التفاعلات والتبادلات دور كبير في طمأنة شعب تايوان على مستقبله السلمي والآمن. في الآونة الأخيرة، أدلى الرئيس بايدن مرارًا وتكرارًا بتصريحات ”غير رسمية“ تشير إلى أن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بالدفاع عن تايوان رغم العاصفة الدبلوماسية التي أحدثتها هذه التصريحات. لذلك ليس من المبالغة القول إن قانون العلاقات مع تايوان هو تشريع يوفر القاعدة الأساسية للعلاقات المستمرة والجوهرية والاعتراف المتبادل بين الولايات المتحدة وتايوان.

مسؤولية المشرّع الياباني تجاه نصرة قضية عادلة

في الخطاب أعلاه، صرحت الرئيسة تساي أيضًا بأن العلاقات مع اليابان ”مهمة جداً بالنسبة لتايوان“ وأن بلادها ستواصل تعزيز رؤيتها للتعاون في منطقة المحيط الهندي-الهادئ ليس فقط مع الولايات المتحدة، ولكن أيضًا مع اليابان. وأعربت الرئيسة تساي عن أملها في أن ينجح البلدان في تعزيز الرخاء الاقتصادي والحكم الديمقراطي والأمن الإقليمي. واستشهدت أيضًا بمشاعر الشعب التايواني المؤيد لليابان بقوة، مشيرة إلى أن اليابان هي وجهة السفر الأكثر شعبية في تايوان وأن اليابان هي ثالث أكبر شريك تجاري لتايوان. لكن مع الأسف، على الرغم من كل هذا، ليس لدى اليابان تشريع مماثل لقانون العلاقات مع تايوان كي يوفر أساسًا تشريعيًا دائمًا للعلاقات القوية بين تايبيه وطوكيو.

بعد قطع العلاقات الرسمية مع تايبيه، أسست كل من اليابان والولايات المتحدة منظمات خاصة في تايبيه (رابطة التبادل بين اليابان وتايوان والمعهد الأمريكي، على التوالي) لدعم العلاقات على مستوى الأعمال، ولكنها منظمات غير حكومية. بالأخذ في الاعتبار الفترة الطويلة التي قضاها الاستعمار الياباني في تايوان، نجد أن مشاعر الشعب التايواني تجاه اليابان إيجابية للغاية وأن اليابان لها مكانة كبيرة في قلوب التايوانيين. والدليل على ذلك أن تايوان هي الدولة التي تبرعت بأكبر مبلغ من المال لليابان بعد زلزال شرق اليابان الكبير في مارس/ آذار 2011. أثناء فترة عملي في الجامعات اليابانية، كنت أقوم بزيارات سنوية متكررة إلى الجامعات التايوانية لتسهيل تبادل الطلاب، وقد تأثرت كثيراً بما لقيته من مشاعر دافئة وحب لليابان من قبل الشعب التايواني على اختلاف أجياله.

لكن بالمقارنة مع التعاون بين الولايات المتحدة وتايوان الذي يتوطد مع كل أزمة عابرة، لا يزال الشعب الياباني غير مدرك لمدى أهمية مستقبل تايوان بالنسبة له. ولطالما كانت الجهود الدؤوبة لجمعية التبادل الياباني-التايواني وغيرها من الجهود الفردية من الجانبين في هذا الصدد لا تقدر بثمن، ولكننا الآن بحاجة إلى مواصلة هذه الجهود من خلال رفع الوعي العام بأهمية العلاقات بين تايوان واليابان وزيادة إدراك اليابانيين بالأزمة التي تحيط بمستقبل تايوان.

في السنوات الأخيرة، أصبحت تحركات الصين أكثر حزماً وهيمنة، ولم يعد مستبعداً أن تسعى بكين إلى إعادة الاتحاد مع تايوان بالقوة. بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان في أغسطس/ آب من هذا العام، كثّفت الصين من سياسات الترهيب ضد تايوان وهناك مخاوف وتوقعات داخل اليابان بأن أمن تايوان في خطر وأن اليابان ستكون طرفاً في صراع قريب، على سبيل المثال صرّح رئيس الوزراء السابق شينزو آبي أن ”حالة الطوارئ في تايوان هي حالة طوارئ يابانية“. ومع ذلك، لا تزال اليابان وتايوان غير قادرتين على تبادل المعلومات على المستوى الدفاعي أو حتى اتخاذ الترتيبات اللازمة لحماية وإجلاء المواطنين اليابانيين في حالة حدوث طوارئ.

قبل ربع قرن، كنت أعمل مراسلًا في واشنطن العاصمة لصحيفة يابانية أثناء أزمة مضيق تايوان 1995-1996. وبينما كان التوتر يخيّم على الحكومة الأمريكية ووسائل الإعلام في ذلك الوقت، كان هناك شعور بأن الصين ستتراجع في النهاية ربما لإدراك الجميع بأن ميزان القوة العسكرية في ذلك الوقت كان يميل لصالح الولايات المتحدة على حساب الصين، لكن الأوضاع تغيرت وأصبحت الصين الآن قادرة على تقويض الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، أو على الأقل فإن ميزان القوى قد يكون الآن في صالح الصين.

لتجنب استفزاز الصين، يعتقد البعض في اليابان أن سن إطار قانوني يركز على الأمن فقط هو أمر غير مرغوب فيه، أما إذا تم سن تشريع جديد للعلاقات بين اليابان وتايوان يغطي نطاقاً واسعاً يشمل السياسة والاقتصاد والتجارة والسياحة والتبادل الثقافي والبشري، فلن تتدخل الصين في الأعمال التجارية. بل على العكس من ذلك، إذا حاولت الصين التدخل فسوف تقدم بذلك مبررًا قوياً للحكومة اليابانية والبرلمان الياباني للضغط على بكين أكثر حتى تغير من سياساتها تجاه تايوان.

وقبل كل شيء، يجب على اليابان أن تعلن بوضوح أن مستقبل تايوان لا يجب أن يتقرر بأي وسيلة أخرى بخلاف الوسائل السلمية وأن تلتزم اليابان بموقف قوي يتمثل في مقاومة الترهيب أو أي محاولة لاستخدام القوة العسكرية. مما تقدم، أحث إدارة رئيس الوزراء كيشيدا فوميئو والأحزاب الحاكمة والمعارضة في البرلمان على سن نسخة يابانية من قانون العلاقات مع تايوان.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: رئيسة تايوان تساي إنغ وين، في الوسط، تستقبل وكيل وزارة الخارجية الأمريكية كيث كراش، إلى اليسار، في تايبيه في 18 سبتمبر/ أيلول 2020. على اليمين موريس تشانغ مؤسس شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة TSMC. إهداء من مكتب الرئاسة في تايوان. جيجي برس)

العلاقات الخارجية العلاقات اليابانية الأمريكية العلاقات اليابانية الصينية