صانعو التاريخ الياباني

الساموراي الأخير: 50 عاما على ”انقلاب“ ميشيما يوكيو وانتحاره الدرامي!

ثقافة

بمناسبة مرور نصف قرن على واقعة انتحار ميشيما يوكيو، يلقي المختص الأدبي إينوي تاكاشي نظرة على الروابط بين وفاة ميشيما وعمله الأخير الذي حمل عنوان ’’هوجو نو أومي (بحر الخصوبة)‘‘.

في 25 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970 سلم ميشيما يوكيو مخطوطة الجزء الأخير من روايته المكونة من أربعة أجزاء ’’هوجي نو أومي (بحر الخصوبة)‘‘ إلى محرره. وفي نفس اليوم أقدم ميشيما على الانتحار وفق طقوس سيبّوكو داخل مكتب القائد في مقر القيادة الشرقية لقوات الدفاع الذاتي البرية في إيتشيغايا بطوكيو وذلك بعد أن أخفقت محاولته في تحريض قوات الدفاع الذاتي على التمرد. وقد ساعده أحد أتباعه في إتمام طقوس الانتحار بقطع رأسه. وهكذا اكتمل آخر عمل لميشيما وانتهت حياته في نفس الوقت. لا تزال الطبيعة المروعة للواقعة تخضع للمناقشة في جميع أنحاء العالم بعد مرور نصف قرن. لكن الأحداث التي سبقت وفاته غير معروفة كثيرا بشكل يدعو للدهشة. فمتى قرر ميشيما الانتحار؟ وما علاقة ذلك بأعماله الأدبية؟

لطالما كتب ميشيما عن الموت منذ أولى أعماله. ففي القصة القصيرة ’’ميساكي ني نو مونوغاتاري (قصة عند الرأس البحري)‘‘، التي كتبها في سن العشرين عام 1946 بعد استسلام اليابان مباشرة، يلتقي صبي صغير تائه في الجبال بجانب البحر بزوجين شابين جميلين قبل انتحارهما معا، وهو ما يشعره بتنامي جاذبية الموت في عينيه. وفي قصة ’’يوكوكو (الوطنية)‘‘ المنشورة عام 1961، يعيش ملازم مع زوجته عذابات نفسية جراء احتمال القتال ضد ضباط آخرين في وحدته لقمع محاولة انقلاب عسكري عام 1936 والتي عُرفت فيما بعد باسم حادثة 26 فبراير/شباط. شهد فيلم صدر عام 1966 مستوحى من القصة، قيام ميشيما كاتب القصة نفسه بلعب دور الملازم الذي ينهي حياته وفق طقوس سيبّوكو. وفي عام 1968 شكل ميشيما جيشا خاصا من الطلاب يُدعى ’’تاكي نو كاي (جمعية الدرع)‘‘ – بعض أعضاء تلك الجماعة شهدوا اللحظات الأخيرة من حياة ميشيما في مكتب القائد – ومن تلك النقطة برزت مؤشرات تدل على استعداده للموت في أي وقت.

سيف مع غمده كان ميشيما قد استخدمه عند انتحاره (حقوق الصورة لجيجي برس).
سيف مع غمده كان ميشيما قد استخدمه عند انتحاره (حقوق الصورة لجيجي برس).

إن تصوير الموت وتمثيل دور فني عن الموت والاستعداد النفسي للموت شيء، وإنهاء حياة المرء حقيقة هو شيء مختلف تماما. حتى في يناير/كانون الثاني عام 1970 – وهو عام انتحار ميشيما – تحدث الكاتب عن تأليف رواية تاريخية عن الشاعر فوجيوارا نو تييكا (1162-1241) بعد إكمال بحر الخصوبة. ويبدو أنه في تلك المرحلة لم يكن قد عقد العزم على الموت في نوفمبر/تشرين الثاني. على الرغم من أن تييكا ينحدر من سلالة رجل الدولة القوي فوجيوارا نو ميتشيناغا (966-1027)، إلا أنه كان غامضا سياسيا، ولكنه كان محبوبا في العالم الأدبي. وهناك ما يدعو للاعتقاد بأن ميشيما اعتبر ذلك حالة يجدر به تقليدها. ولكن في نهاية المطاف تخلى ميشيما عن كتابة الرواية المزمعة. يا ترى ما الذي دفعه للقيام بذلك؟

نقل جثمان ميشيما يوكيو من مكتب القائد في مقر القيادة الشرقية لقوات الدفاع الذاتي البرية في إيتشيغايا بطوكيو (حقوق الصورة لجيجي برس).
نقل جثمان ميشيما يوكيو من مكتب القائد في مقر القيادة الشرقية لقوات الدفاع الذاتي البرية في إيتشيغايا بطوكيو (حقوق الصورة لجيجي برس).

مؤشرات من آخر عمل لميشيما

على مدار الأجزاء الأربعة لبحر الخصوبة يظهر بطل الرواية في تناسخات مختلفة. الجزء الأول من الرواية والذي صدر عام 1967 بعنوان ’’هارو نو يوكي (ثلوج الربيع)‘‘ هو عبارة عن قصة حب تتمحور حول أرستقراطي شاب في عصر تايشو (1912-1926). يدخل ماتسوغاي كييوأكي بعلاقة مع أياكورا ساتوكو المخطوبة لأمير إمبراطوري، ومن ثم تحمل منه. بعد ذلك تجهض وتتحول لراهبة، بينما هو يموت جراء إصابته بمرض بدون أن يلقاها مرة أخرى.

ولكن كييوأكي يُبعث من جديد في شخصية إينوما إيساو في الجزء الثاني من الرواية لعام 1968 الذي يحمل عنوان ’’هونبا (خيول جامحة)‘‘ ويحكي هذا الجزء قصة عن القومية والإرهاب تدور أحداثها في أوائل عصر شووا (1926-1989). يغتال إينوما ممولا متلاعبا ذا نفوذ ثم يقتل نفسه عبر طقوس سيبّوكو.

في الجزء الثالث الصادر عام 1970 بعنوان ’’أكاتسوكي نو تيرا (معبد الفجر)‘‘ يصبح هوندا شيغيكوني صديق كييوأكي المقرب من الجزء الأول – والذي يظهر في كل جزء – محاميا مسنا يتصرف بغرابة حيث يطارد أميرة تايلندية معروفة باسم يينغ تشان هي تناسخ جديد لإينوما. عواطفه المتقلبة لا تثمر عن شيء، وتموت يينغ تشان في بلدها، بينما يبقى هوندا على قيد الحياة. سلم ميشيما الرواية للتحرير في 20 فبراير/شباط عام 1970.

بعد ذلك أخذ ميشيما استراحة لمدة شهرين من النشر التسلسلي لأجزاء الرواية، وقضى الوقت في التفكير في حبكة الجزء الرابع والأخير. إحدى الأفكار التي جالت في ذهنه تمثلت في جعل هوندا المسن يلتقي بالعديد ممن يدعون بأنهم أحدث تناسخ لبطل الرواية ليتضح أنهم كاذبون. ولكن في النهاية سيجد التناسخ الحقيقي ويموت سعيدا. كما راودته فكرة أخرى تمثلت في دخول هوندا في مواجهة مع مدعٍ، ولكن بعد ذلك تدور الأحداث لتعود إلى نفس المواجهة مع التناسخ الحقيقي والموت بسعادة فيما بعد. تشير ملاحظات ميشيما إلى أنه كان يعتقد أنه سيحتاج إلى سنة وأربعة أشهر لكتابة ذلك الجزء على هذا المنوال ما يعني الانتهاء من الكتابة في يوليو/حزيران عام 1971. وحتى تلك المرحلة لم يكن ميشيما يفكر في الموت في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970.

ولكن الحبكة القصصية المذكورة أعلاه لا تشبه نهاية الجزء الرابع والذي حمل عنوان ’’تينّين غوسوي (اضمحلال الملاك)‘‘ في النسخة التي نُشرت عام 1971 بعد وفاة ميشيما. ففي هذا الجزء يتبنى هوندا شابا يدعى ياسوناغا تورو كان يعتقد أنه أحدث تناسخ. ولكن بعد أن علم أنه ليس كذلك، ذهب للقاء ساتوكو التي جاء ذكرها في الجزء الأول ’’ثلوج الربيع‘‘، وكانت قد زهدت في العالم وأصبحت رئيسة دير للراهبات. أخبرته أنها لم تعرف أبدا أي شخص يُدعى ماتسوغاي كييوأكي مشيرة إلى أن ذلك الشخص لا وجود له أبدا، ورفضت قصة هوندا في التناسخ. هوندا الذي أصابه الذهول، شعر أن هويته هو نفسه بدأت في الاضمحلال. تم اصطحاب هوندا إلى حديقة دير الراهبات حيث يتردّد صدى صرير حشرات السيكادا، ويشعر أنه وصل إلى مكان لا توجد فيه ذكريات، بل في الحقيقة لا يوجد شيء على الإطلاق. إن فقدان الذاكرة يمكن أن يسمى أيضا بفقدان الحياة. وفي هذا المكان تنتهي السلسلة الروائية الرباعية.

الشعور بالضيق

تشير ملاحظات ميشيما إلى أنه ألغى الحبكة الأصلية وبدأ يفكر في النسخة النهائية من الحبكة الروائية لاضمحلال الملاك حوالي مارس/آذار أو أبريل/نيسان عام 1970. وتظهر تسجيلات المحاكمة التي أعقبت محاولة الانقلاب أنه بدأ التخطيط للثورة في وقت مماثل. وهذا يعني أنه كان يعد نفسه للموت بينما كان يعدل حبكة ’’بحر الخصوبة‘‘ من نهاية سعيدة إلى خاتمة سلبية.

وصية ميشيما يوكيو الموجهة إلى ’’تاتي نو كاي (جمعية الدرع)‘‘ قبل وفاته (حقوق الصورة لجيجي برس).
وصية ميشيما يوكيو الموجهة إلى ’’تاتي نو كاي (جمعية الدرع)‘‘ قبل وفاته (حقوق الصورة لجيجي برس).

ولكن ما هي أهمية هذا التوقيت؟ خلال سنوات النمو الكبير في اليابان في ستينات القرن العشرين، بدا أن ميشيما يتربع على عرش الشهرة، حيث أدى أدوارا سينمائية وظهر في وضعيات ساحرة في المجلات. ولكن تلك الشهرة كانت ظاهرية فقط. عندما أصبح المجتمع الياباني أكثر مساواة، أصبحت القيم موحدة بشكل متزايد وعلى الرغم من تزايد الحرية فيما يبدو إلا أنه في الواقع أصبح لدى الجميع نظرة متماثلة عن الحياة. شعر ميشيما بالضيق. ففيما يتعلق برواياته، الأعمال التي جاءت بعد ’’كينكاكوجي (معبد السرادق الذهبي)‘‘ في عام 1956 لم يكن لها وقع جيد على الجمهور ولا سيما ’’كيوكو نو إييه (منزل كيوكو)‘‘ في عام 1959 و’’أوتاغي نو أتو (بعد المأدبة)‘‘ في عام 1960. ويعكس الأسلوب المظلم لحماقات هوندا المتكررة في ’’معبد الفجر‘‘ والعديد من التناسخات الزائفة في الجزء الرابع المزمع، رؤية ميشيما فيما يتعلق بحقيقة العصر وآلام الحياة في ذلك الوقت.

ولكن النهاية الأصلية للرواية والتي يلتقي فيها هوندا بالتناسخ الحقيقي قبل موته السعيد أظهرت أن ميشيما كان ما زال يؤمن بإمكانية الخلاص في الحياة. وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعني تغيير خاتمة الرواية بأنه تخلى عن هذا الاعتقاد؟ الجزء الأخير من ’’بحر الخصوبة‘‘ لا يقدم رؤية للخلاص غير موجودة بالفعل، بل إنه يصور بوضوح وبلا تردد الحقيقة المروعة. لا بد وأن ذلك كان نظرة ميشيما للأمر. لكن ما الذي دفعه إلى اتخاذ القرار؟ هذا السؤال بمثابة الاستفسار عن سبب اختياره للموت. هناك الكثير من النقاط التي يجب أخذها في الحسبان بهذا الشأن ومن المستحيل الوصول إلى نتيجة ثابتة، لكنني أريد أن أتطرق إلى نقطة تاريخية يتم تجاهلها عادة.

في 15 مارس/آذار عام 1970 افتتح المعرض العالمي في أوساكا. وجنبا إلى جنب مع أولمبياد طوكيو عام 1964، مثلت تلك الفعاليات تحقيق تعافي اليابان بعد الحرب. لكن ميشيما لم يعتبر ذلك أكثر من مجرد تكلف، ونوعا من الرؤية البراقة الخادعة التي يجب أن تمزق. هذا هو الدافع وراء ’’اضمحلال الملاك‘‘، وكان أساس استهجانه للعصر عبّر عنه بوفاته. وقد رأى ميشيما اكتمال حياته وأعماله الأدبية كجزء من شيء واحد.

رؤية للقرن الحادي والعشرين في اليابان

عندما توفي ميشيما في عام 1970 كانت اليابان لا تزال تتمتع بازدهار اقتصادي، وبالنسبة لقراء ذلك الزمن الذين لم يكن يساورهم أدنى شك بشأن المستقبل المشرق، كان إحساس ميشيما بالإلحاح حيال خطورة الموقف أمرا لا يمكن تفسيره. بالنسبة لهم لم يبدُ أن إقدام ميشيما على الانتحار وفق طريقة سيبّوكو سوى ممارسة خرقاء عفا عليها الزمن، في حين أن الخاتمة العدمية لـ’’اضمحلال الملاك‘‘ كانت نوعا من الإفلاس الإبداعي. ولكن بعد مرور نصف قرن منذ ذلك الحين شهدت اليابان تغيرا جذريا. فقد شهدنا سلسلة من الكوارث مثل هجمات مترو الأنفاق من قبل طائفة أوم شينريكيو وزلزال شرق اليابان الكبير وما تلاه من تسونامي وحادث نووي والآن جائحة كوفيد-19. إن الشعور بالشك في أن النمو الاقتصادي لليابان والانتعاش بعد الحرب – أو حتى مسيرة التحديث نفسها – ربما كان في الواقع مجرد بناء زائف قد نما يوما بعد يوم. ربما تنبأت رواية ’’اضمحلال الملاك‘‘ بمستقبل اليابان في القرن الحادي والعشرين. هذا ما أؤمن به.

وصف الكاتب الأمريكي كورت فونيغت (1922-2007) دور الفنان بأنه مثل ’’عصفور الكناري في منجم الفحم‘‘ يبدي مبكرا ردة فعل تجاه أي تدهور في جودة الهواء. وبالقياس فإن الفنانين الكبار حساسون لروح العصر، وهم أول من يحذّر المجتمع. كان القراء في زمن ميشيما غير مكترثين بالرسالة التي دفع حياته ثمنا لها، ولكن هل نستطيع في الوقت الحاضر أن نتلقى مباشرة الرسالة التي حاول ميشيما إيصالها لنا بعد أن اكتوينا بنار الشعور بالعدمية وبدون أن يكون أمامنا أي مخرج؟

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية. الترجمة من الإنجليزية. صورة العنوان: ميشيما يوكيو يلقي خطابا من شرفة في مقر القيادة الشرقية لقوات الدفاع الذاتي البرية في إيتشيغايا بطوكيو في 25 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970. حقوق الصورة لجيجي برس)

ميجي الأدب تاريخ الثقافة التقليدية تاريخ اليابان الساموراي نهضة ميجي