فقط في اليابان.. اليابانيون يستخدمون الواقع الافتراضي لمعايشة تجربة الحرب العالمية الثانية ودراسة التاريخ بشكل عملي

ثقافة

”أجزاء من الوصية الأخيرة“ هو فيلم ياباني جديد يتناول حقبة الاعتقال السوفيتي للجنود اليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية، وقد أثار الفيلم اهتمام الشباب بتلك المرحلة من تاريخ بلادهم، وسلّط الضوء على متحف تاريخي لم ينل بعد نصيبه من الاهتمام.

أثار فيلم جديد عن الاعتقال السوفيتي للجنود اليابانيين في سيبيريا بعد الحرب العالمية الثانية اهتمام الشباب بتلك المرحلة الحساسة من تاريخ بلادهم وكان الفيلم سبباً في مضاعفة أعداد الحاضرين في متحف صغير مخصص لتثقيف الجمهور حول التجربة المريرة التي مر بها الجنود اليابانيون والمدنيون خارج وطنهم أثناء الحرب وبعدها.

محاكاة معسكرات الاعتقال السيبيري

في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، انضم الاتحاد السوفيتي إلى دول الحلفاء في حربها ضد اليابان في انتهاك صارخ لاتفاق الحياد السوفيتي الياباني. وعندما استسلمت اليابان، ألقى مئات الآلاف من الجنود اليابانيين المتمركزين في الاتحاد السوفيتي ومنغوليا أسلحتهم وتم نقلهم إلى معسكرات في سيبيريا وأجزاء أخرى من الاتحاد السوفيتي حيث أُجبروا على العمل في ظل ظروف شديدة القسوة، فلقي حوالي 55 ألف من أصل 570 ألف معتقلاً مصرعهم، واضطر العديد من السجناء إلى الانتظار حوالي 11 عامًا حتى تمت إعادتهم إلى وطنهم.

الفيلم الياباني Rāgeri yori ai o komete (أجزاء من الوصية الأخيرة، ويترجم أيضًا ”تحية من سيبيريا“)، من إخراج زيزي تاكاهيسا، يصور بطولة أحد هؤلاء المعتقلين، وهو ياماموتو هاتاؤ، ومعاناة زوجته وأطفاله الذين كانوا يحلمون بعودته إليهم سالماً. يوصف الفيلم بأنه ”قصة حب حقيقية“ ويسلط الضوء على ياماموتو وتشبثه بالأمل في العودة إلى الوطن مما جعله مصدر إلهام لرفاقه. يلعب دور البطولة نينوميا كازوناري، الذي بدأ حياته الفنية كأحد نجوم موسيقى البوب، وقد حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا في أوساط الشباب على وجه الخصوص. ففي العرض الذي حضرته في طوكيو، شكّلت فئة الشباب حوالي ثلثي الجمهور.

“أجزاء من الوصية الأخيرة” للمخرج زيزي تاكاهيسا. (لجنة إنتاج فيلم “أجزاء من الوصية الأخيرة” الذي عرض في 2022، شيميزو كيوكو 1989).
“أجزاء من الوصية الأخيرة” للمخرج زيزي تاكاهيسا. (لجنة إنتاج فيلم “أجزاء من الوصية الأخيرة” الذي عرض في 2022، شيميزو كيوكو 1989).

عقد صناع الفيلم العزم على محاكاة نفس الظروف التي أُجبر المعتقلون على العمل فيها داخل المعسكرات في سيبيريا، فاعتمدوا بشكل كبير على المواد التاريخية وحظيو بإشراف من المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين بعد الحرب (Heiwa Kinen Tenji Shiryōkan، والقائم على إدارته ماسودا هيروشي). هذا المتحف، الذي يعمل تحت رعاية وزارة الشؤون الداخلية والاتصالات، مكرس لتعزيز فهم الجمهور للصعوبات التي واجهها الجنود اليابانيون في الحرب العالمية الثانية وأولئك الذين أعيدوا إلى أوطانهم بعد انتهاء الحرب، فضلاً عن آلاف المحتجزين في الاتحاد السوفيتي. يقع المتحف في مبنى شينجوكو سوميتومو الشاهق في قلب طوكيو، والدخول إليه مجاني.

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وفي إطار شراكة مع منتجي الفيلم، افتتح المتحف معرضًا خاصًا بعنوان ”Eiga Rāgeri yori ai o komete no sekai“ (عالم ”أجزاء من الوصية الأخيرة“) يضم لوحات كبيرة ثابتة، وأزياء واكسسوارات من تلك التي تم استخدامها في الفيلم. انتهى المعرض في 15 يناير/ كانون الثاني، ولكن من 11 يناير/ كانون الثاني إلى 23 أبريل/ نيسان، سيعرض المتحف مجموعة من رسائل ياماموتو هاتاؤ (بطل الفيلم) إلى زوجته كجزء من معرض للبطاقات البريدية المرسلة من المعتقلين إلى عائلاتهم في اليابان.

فضول الشباب لمعرفة تاريخ بلادهم

بمجرد افتتاح المعرض الخاص بدأت أعداد الحاضرين في الازدياد، وفقًا لمتحدث باسم المتحف. لكن بعد طرح الفيلم في دور العرض في 9 ديسمبر/ كانون الأول، قفزت أعداد الزائرين شهرياً إلى أكثر من ضعف الأعداد المسجلة في العام السابق وكان الشباب مكونًا بارزًا في هذه الطفرة العددية، إذ يبدو أنهم مذهولون بنماذج معسكرات العمل الموجودة في المتحف فضلاً عن ديوراما كبيرة تصور السجناء يتشاركون رغيفًا صغيرًا من الخبز الأسود.

الشباب من زوار المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين بعد الحرب يتجمعون حول ديوراما تعيد إحياء مشهد داخل أحد معسكرات العمل في سيبيريا. (سايتو كاتسوهيسا)
الشباب من زوار المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين بعد الحرب يتجمعون حول ديوراما تعيد إحياء مشهد داخل أحد معسكرات العمل في سيبيريا. (سايتو كاتسوهيسا)

شرحت طالبة جامعية سبب اهتمامها قائلةً: ”لقد سمعت قصصاً عن الحرب من أجدادي، لكنني لم أكن أعلم شيئاً عن مأساة المعتقلين في سيبيريا قبل مشاهدة الفيلم، مما زاد من رغبتي في معرفة المزيد عن تلك الفترة. أنزعج عندما يقول الناس أن شباب اليوم غير مهتمين بفترة الحرب، لا شك أن السلام ثمين ولكني أرى من الضروري التعرف على حقيقة الحرب ووقائعها من أجل الحفاظ على سلام دائم“.

من بين التعليقات المسجلة في دفتر الزوار ما يلي:

”جئت إلى المتحف لأني تأثرت بالفيلم بشدة. لا يمكننا أن ندع شيئًا كهذا يحدث مرة أخرى، وبدلاً من أن نتجاهل تلك الحقبة الهامة من تاريخنا، يجب أن نتعلم الحقائق ونتأكد من عدم تكرار نفس الخطأ“.

كما لاحظ أمين المتحف كاتو تسوموجي زيادة كبيرة في أعداد الشباب الذين يقبلون على ملء استبيان المتحف، وهو يرى أن الفضل في ذلك يعود إلى الفيلم.

حكايات الناجين معين لا ينضب

بالإضافة إلى المعروضات، ينظم المتحف مجموعة متنوعة من الأحداث التي تهدف إلى إعادة إحياء أجواء زمن الحرب لتعريف الشباب بتلك الفترة، بما في ذلك فعالية Kataribe no kai، التي يقوم خلالها الجنود اليابانيون والمعتقلون وغيرهم من المشاركين في الحرب العالمية الثانية بسرد ذكرياتهم شفهياً بأسلوب الراوي، الذي يُعرف في اليابان باسم Kataribe.

ابتداءً من عام 2022، شرع المتحف في إطلاق سلسلة من البرامج الجديدة عبر الإنترنت. وإدراكًا منها لصعوبة زيارة المتاحف بسبب جائحة كورونا، طورت إدارة المتحف موقعًا إلكترونيًا للمتحف الافتراضي يسمح للمستخدمين بالاستمتاع بجولة افتراضية عالية الدقة إلى المعارض عبر الكمبيوتر أو الهاتف الذكي. لتعزيز التواصل مع الأجيال الناشئة، أطلق المتحف برنامج دعم تعليم السلام عبر الإنترنت، الذي يقدم من خلاله موظفو المتحف دروس فيديو مدتها 50 دقيقة تستهدف الطلاب من الصف الخامس حتى المدرسة الثانوية. قبل الفصل، يرسل المتحف لكل مدرسة مشاركة أدوات مثل الملابس التي كان الجنود يرتدونها والخبز الأسود الذي كان السجناء يأكلونه، مما يساعد الطلاب على الفهم خلال تجربة التعلم عن بعد، وبهذه الطريقة تتوسع أنشطة المتحف وتتطور.

شهادة تسعيني على التاريخ

من الأمور الجاذبة لرواد المتحف والطلاب على حد سواء السرد الشفوي لأحد الناجين من معسكرات العمل في سيبيريا يبلغ من العمر 97 عامًا، وهو نيشيكورا ماسارو الذي تم تجنيده في يناير/ كانون الثاني 1945 عن عمر يناهز 19 عامًا، وهو الحد الأدنى لسن التجنيد. عندما انتهت الحرب في أغسطس/ آب، قام الجيش السوفيتي بنزع سلاحه بالقرب من الحدود بين الاتحاد السوفيتي وكوريا وبدأ كابوس دام ثلاث سنوات.

يتحدث نيشيكورا ماسارو عن احتجازه في أحد معسكرات العمل في سيبيريا. (إهداء من نيشيكورا ماسارو)
يتحدث نيشيكورا ماسارو عن احتجازه في أحد معسكرات العمل في سيبيريا. (إهداء من نيشيكورا ماسارو)

يروي نيشيكورا: ”لقد تم إدخالنا إلى الأراضي السوفيتية على مدى عشرة أيام ثم وضعونا في قطار شحن وأخبرونا إننا سوف نعود إلى اليابان في أكتوبر/ تشرين الأول. لكني لاحظت أن القطار كان يسير مبتعداً في اتجاه الشمال، الأمر الذي بدا غريباً. في اليوم الرابع، وصلنا إلى كومسومولسك-نا-أموري في أقصى شرقي الاتحاد السوفيتي، حيث تم احتجازنا في إسطبل تصل درجات الحرارة به ليلاً إلى عشرين درجة مئوية تحت الصفر، كنا مانزال نرتدي ملابسنا الصيفية، فاضطررنا إلى أن ننام في مجموعات مكونة من ثلاثة جنود بجوار بعضنا البعض لكي نستخدم حرارة أجسادنا للتدفئة. أما الطعام فكانوا يطعموننا كميات صغيرة جداً من الخبز الأسود، وكان علينا أن نعمل بجد وإلا فسيتم تقليص حصتنا من الخبز. كما كان يُطلب منا مد أنابيب المياه تحت الأرض لكننا لم نتمكن من كسر الأرض المتجمدة مهما بلغت قوة ضربات فؤوسنا.

”مع تفاقم البرد، كان رفاقي يتساقطون من حولي. ومع حلول يوم رأس السنة الجديدة عام 1946 قلت لنفسي ربما سأتمكن من العودة إلى اليابان هذا العام، لكن هذا لم يحدث. ثم تمنيت نفس الأمنية في العام التالي، لكن شيئاً لم يتغير. ظللت أشجع نفسي وأقول “لا يمكنك أن تموت في هذا المكان”. وأخيرًا، في يوليو/ تموز 1948، تمكنت من العودة إلى وطني.

”لسنوات عديدة لم أتحدث إلى أحد عن الأعوام الثلاثة التي أمضيتها في سيبيريا. لكن في سن التسعين، وبعد زيارة المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين إلى الوطن بعد الحرب، بدأت في سرد قصتي بأسلوب kataribe. قررت أن أفعل هذا على أمل ألا يضطر شباب اليوم إلى تجربة ما مررت به. يبدو أن الشباب مهتمون بشدة بحكايتي“.

على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا، يتساءل نيشيكورا لماذا تستمر الحرب في العالم، ”يا له من عار كبير. أنا أصلّي وأدعو ألا يضل العالم، واليابان، الطريق الصحيح“.

تصميم معسكر عمل في الواقع الافتراضي

في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بعد أسبوع من إصدار فيلم ”أجزاء من الوصية الأخيرة“، أقام المتحف حدثًا افتراضياً على الإنترنت يقدم تجربة الاعتقال في أحد معسكرات العمل بسيبيريا في الواقع الافتراضي. قام طلاب جامعة تاما في طوكيو بتطوير المعسكر في الواقع الافتراضي باستخدام القطع الأثرية والمواد الأخرى الموجودة في المتحف. وباستخدام أجهزة كمبيوتر محمولة متصلة بالإنترنت، تجوّل كل مشارك، ممثلاً بأفاتار فتى أو فتاة، في المخيم الثلجي البارد. وتمكن المستخدمون من دخول الثكنات حيث ينام الجنود اليابانيون ويأكلون ويقومون بمسح المعسكر، شاهدوا كل هذا من موقع حارس سوفيتي يقف في برج المراقبة. لقد ساعد هذا البرنامج المشاركين على الإحساس بشدة قسوة الظروف في معسكرات العمل.

يقوم زوار المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين بعد الحرب بجولة في الواقع الافتراضي الذي يحاكي معسكر العمل في سيبيريا حيث تم اعتقال الجنود اليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية. (سايتو كاتسوهيسا)
يقوم زوار المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين بعد الحرب بجولة في الواقع الافتراضي الذي يحاكي معسكر العمل في سيبيريا حيث تم اعتقال الجنود اليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية. (سايتو كاتسوهيسا)

تحدث أحد أعضاء فريق تطوير الواقع الافتراضي، وهو طالب في السنة الرابعة يُدعى هاما دايكي، بحماس عن المشروع. ”سمعت أشياء عن الحرب من أجدادي، لذلك كنت مهتمًا منذ البداية. لقد كانت زيارة المتحف مرارًا وتكرارًا لجمع المواد تجربة قيّمة حقًا، فضلاً عن إتاحة الفرصة لنا لسماع السيد نيشيكورا وهو يروي قصته مباشرة“.

لقد نشأت فكرة محاكاة تجربة معسكرات العمل في الواقع الافتراضي لدى كوباياشي أكينا الأستاذ المشارك في جامعة تاما، المتخصص في تاريخ العلاقات بين اليابان وروسيا والمهتم بإجراء أبحاث حول فترة الاعتقال، بهدف الحفاظ على ذاكرة الاعتقال السيبيري ونقلها إلى جيل الشباب.

وردا على سؤال حول ما إذا كان الاهتمام بالحرب يتزايد بين الشباب الياباني، أجاب كوباياشي ”أشعر أن الاهتمام بالحرب في ازدياد. لكن السبب، كما أراه، ليس وعياً مفاجئاً بالحرب العالمية الثانية بقدر ما هو تأثير الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا وما يراه ويسمعه شباب اليوم عن أشخاص يقتلون بعضهم البعض بالأسلحة. كما جعلتهم هذه الحرب يفكرون ملياً في مدى فعالية الاعتماد كليًا على مصادر الإنترنت لتقييم الموقف ولحماية أنفسهم من الأخبار المفبركة. نتيجة لذلك، أعتقد أن الشباب بدأوا يدركون أهمية دراسة التاريخ واستسقاء الدروس منه“.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: تصميمات مصغرة وأدوات وأشياء أخرى معروضة في المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين بعد الحرب. إهداء من المتحف التذكاري للجنود والمحتجزين في سيبيريا والعائدين بعد الحرب).

الثقافة الثقافة التقليدية التاريخ الياباني