
السقوط في الهاوية... كيف يجتاح هوس الثراء السريع المجتمع الياباني؟
مجتمع- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
وظائف ظلامية
تحقق وكالة الشرطة الوطنية اليابانية في الظروف التي دفعت آلاف الأشخاص إلى الانخراط فيما يُعرف محليًا باسم ”يامي بيتو“، وهي وظائف بدوام جزئي مشبوهة غالبًا ما تتورط في أنشطة إجرامية. وكما ورد في تقرير عام 2024 الصادر عن الشرطة، تم اعتقال 2373 شخصًا في جميع أنحاء اليابان خلال عام 2023 بتهمة المشاركة في عمليات احتيال مالية، سواء كمتلقين للأموال أو ساحبيها أو ناقليها.
ووفقًا لتقرير وكالة الشرطة الوطنية، تم تجنيد 991 فردًا (ما يعادل 41.8% من إجمالي الاعتقالات) من خلال إعلانات وظائف ”يامي بيتو“ المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي. بينما انخرط 763شخصًا آخر (بنسبة 32.2%) في هذه الوظائف من خلال معارفهم الشخصية. كما تم توظيف 82 فردًا عبر مواقع البحث عن الوظائف المشروعة، حيث تم تقديم هذه الوظائف تحت مسمى ”موظفو عمل يومي“.
وفي هذا السياق، نشر موقع Impress Watch، وهو موقع إخباري متخصص في التكنولوجيا يغطي مجالات تكنولوجيا المعلومات والإلكترونيات الاستهلاكية والترفيه، مقالًا في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، سلط الضوء على حالات تم فيها تجنيد الأفراد لوظائف ”يامي بيتو“ من خلال منصات مثل تطبيق Timee لمطابقة الوظائف. ويسمح هذا التطبيق للمستخدمين بالعثور على وظائف بدوام جزئي يمكن القيام بها في أوقات فراغهم، مما يجعلها أداة محتملة لتجنيد الأفراد في أنشطة غير مشروعة.
السمات النموذجية للشباب المعتقلين
يبدو أن هناك عوامل مشتركة بين الشباب الذين ينخرطون في وظائف بدوام جزئي مشبوهة أو ينزلقون إلى مسارات إجرامية، وفقًا للمقابلات والدراسات التي أُجريت في اليابان. إذ يسود بين هؤلاء الميل إلى البحث عن الربح السريع، وغياب الخلفية التعليمية القوية، والنزعة الاندفاعية، إلى جانب الظروف العائلية غير المستقرة، وهي جميعها عوامل تزيد من احتمالية تعرضهم لهذه المخاطر.
وتشير البيانات إلى أن العديد من هؤلاء الشباب ينحدرون من أسر مضطربة، مثل العيش مع زوج الأم أو الخروج من مرافق رعاية الأطفال دون وجود وجهة واضحة. وهذا يؤدي إلى شعورهم بعدم الانتماء، مما يجعلهم أكثر عرضة للخداع، حيث يقبلون هذه الوظائف دون إدراك كامل لطبيعتها وما قد يترتب عليها من عواقب.
كما أظهر مسح حكومي للمحكوم عليهم أن الكثير من الشباب يميلون إلى تفضيل ”كسب المال بسهولة“ بدلاً من بذل الجهد في العمل الجاد. ففي دراسة أجراها معهد البحث والتدريب التابع لوزارة العدل في يناير/ كانون الثاني 2021، استهدفت المجرمين والأحداث، تبين أن 50.3٪ من المشاركين في العشرينات من العمر وافقوا على هذه الفكرة، مقارنةً بالفئات العمرية الأكبر.
وفي سياق مشابه، أفاد ضابط مراقبة، عند سؤاله عن الفئة النموذجية للشباب الذين يتقدمون لوظائف بدوام جزئي مشبوهة، بأنهم غالبًا ما يكونون ممن غادروا مرافق رعاية الأطفال دون أن يكون لديهم مكان واضح للذهاب إليه، أو شبابًا لديهم الكثير من وقت الفراغ، ويفتقرون إلى الوعي الاجتماعي، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال.
من جهة أخرى، يرى بعض الأطباء النفسيين، مثل السيدة ناكانو هاروكو التي تقدم المشورة للشباب في مركز احتجاز الأحداث في أوساكا، أن هذه الحالات يمكن تفسيرها من خلال ”فرضية العلاج الذاتي“. إذ تشير هذه الفرضية إلى أن الشباب الذين يعانون من انعدام الشعور بالانتماء، أو التعرض للإساءة، أو غيرها من الصعوبات الأسرية، قد ينجرفون إلى السلوك المنحرف كوسيلة للتعامل مع أزماتهم الداخلية، مما يدفعهم إلى اتخاذ قرارات متهورة دون إدراك العواقب المحتملة.
وفي الاجتماع السنوي الـ117 للجمعية اليابانية للطب النفسي والأعصاب، الذي عُقد في سبتمبر/ أيلول 2021، قدّمت الدكتورة ناكانو هاروكو نتائج استطلاع تناول الخلفيات والأسباب التي تدفع الشباب إلى تعاطي وبيع المخدرات. واستندت دراستها إلى مقابلات خاصة أُجريت مع 47 شابًا داخل مدرسة تدريب الأحداث (مركز احتجاز)، حيث اعترف 41 منهم بتعاطي مواد مخدرة، من بينها الماريغوانا، وعقار LSD، وMDMA، والكوكايين، وغيرها من المواد المخدرة.
وكشفت الدراسة أن 55% من هؤلاء الشباب كانوا يبيعون المخدرات، وأن أكثر من 70% منهم استخدموا أكثر من مادة مخدرة في الوقت نفسه. وعند سؤالهم عن تعرضهم للإيذاء في مراحل حياتهم، أفاد 70% منهم بأنهم عانوا من أحد أشكال الإساءة، سواء الجسدية أو النفسية أو الجنسية، أو واجهوا الإهمال الأسري.
وبناءً على هذه النتائج، تخلص ناكانو إلى أن تعاطي المخدرات لدى هؤلاء الشباب لا ينبع من مجرد السعي وراء المتعة، بل يُستخدم كوسيلة لـ ”العلاج الذاتي“، في محاولة للتخفيف من الألم النفسي الناجم عن غياب بيئة منزلية داعمة، والتحديات القاسية التي يواجهونها في حياتهم. وهذا ما يدفعهم، في نهاية المطاف، إلى الانزلاق في أنماط إدمانية يصعب الخروج منها.
سوء السلوك كوسيلة للبقاء!
”هناك نمط شائع جدًا بين الشباب الذين يفتقرون إلى الاستقرار الأسري، حيث يسعون إلى التواصل من خلال التسكع مع أقرانهم المنحرفين. ومن هنا، ينخرطون في عالم المخدرات والكحول والحياة الليلية، ليصبحوا غارقين بشكل متزايد في عالم مليء بالظلام. لكن يمكن أيضًا اعتبار الانحراف شكلاً من أشكال العلاج الذاتي، يساعدهم على البقاء على قيد الحياة“، كما تقول ناكانو في تأملاتها حول نتائج دراستها التي تركز على أسباب انزلاق الشباب من الأسر المفككة إلى المزيد من الانحراف.
وفي سياق مماثل، كشف التقرير الحكومي لعام 2023 بشأن الجريمة عن نتائج مسح أجراه معهد البحث والتدريب حول البيئات المعيشية والمواقف التي استهدفت 564 سجينًا حدثًا (508 من الذكور و56 من الإناث) في مرحلة الاحتجاز الأولية في مراكز تدريب الأحداث. أظهرت النتائج أن 59.6% من الذكور و73.2% من الإناث تعرضوا للعنف الجسدي من أفراد الأسرة، مثل اللكم والركل، مما يعزز ويدعم النتائج التي كشفت عنها الدراسة السابقة.
في إحدى القضايا التي شاركت في دعمها، كان هناك شخصان لا يقتصران على تدخين الماريغوانا منذ كانا في الخامسة عشرة من عمرهما، بل كانا أيضًا يبيعان المخدرات. وكلاهما كان يعاني من علامات واضحة على الإهمال والخلفيات الأسرية المضطربة. وعندما يُوظف هؤلاء الشباب في وظائف بدوام جزئي مشبوهة من قبل تجار المخدرات أو أطراف أخرى، فإن هناك خطرًا كبيرًا من انخراطهم في أنشطة العصابات. إذ يصبح رفض مثل هذه العروض من التجار الأكثر خبرة والأقران الأكبر سناً أمرًا صعبًا للغاية.
أحكام أشد على مرتكبي الجرائم لأول مرة
وفقًا للتقرير الصادر عن قسم مكافحة الجريمة المنظمة التابع لوكالة الشرطة الوطنية حول الوعي بالاحتيال الخاص والاعتقالات المتعلقة به في عام 2023، تم القبض على 49 شخصًا باعتبارهم الشخصيات الرئيسية (الزعماء) في قضايا وظائف بدوام جزئي مشبوهة، وهو ما يمثل 2% فقط من إجمالي اعتقالات الاحتيال الخاص. في المقابل، تم القبض على 1,856 من متلقي وساحبي النقود، وهو ما يمثل 75.6%.
في الآونة الأخيرة، عندما يتم القبض على الأفراد المتورطين في وظائف بدوام جزئي مشبوهة، غالبًا ما يُحكم على المخالفين لأول مرة بالسجن من أجل الردع العام. وبذلك، ينتهي الحال بالكثير منهم في مرافق الإصلاح.
وقد تحدثت مع أحد المدعين العامين السابقين عن طريق أحد المحامين، الذي قدم الأساس المنطقي التالي للعقوبات القاسية على المشاركين من المستويات الأدنى: ”على الرغم من أن متلقي الأموال وساحبيها والمتصلين بها هم في مستويات أدنى من العمليات، ويُستخدمون من قبل القادة الفعليين، إلا أنه لم يكن من الممكن ارتكاب هذه الجرائم بدونهم. وبالتالي، لا يمكن إنكار أهمية أدوارهم، ولا تزال هناك حاجة إلى عقوبات شديدة“.
ومنذ تعديل قانون الأحداث في عام 2021، الذي جعل العقوبات على الجرائم أكثر شدة بالنسبة لـ ”الأحداث المحددين“ الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عامًا، أصبح من الممكن الآن محاكمة هؤلاء الشباب المتورطين في وظائف بدوام جزئي مشبوهة في محكمة جنائية إذا قررت محكمة الأسرة أن العقوبة الجنائية ضرورية. ورغم كونهم أحداثًا، فإنهم عرضة لعقوبات أكثر قسوة.
هل تؤدي العقوبات الأكثر صرامة إلى العودة إلى الجريمة؟
هناك سببان رئيسيان لمعارضتي لفرض عقوبات أكثر صرامة على مرتكبي الجرائم لأول مرة. الأول هو أن المجتمع نفسه يتحمل جزءًا من المسؤولية. فبسبب عدم كفاية التدريب على محو الأمية المعلوماتية والتعليم المهني داخل النظام المدرسي، يفتقر الكبار إلى المعرفة الكافية حول الوظائف المشبوهة بدوام جزئي. ونتيجة لذلك، لا يتم تحذير الأطفال بشكل مناسب حول هذه الفرص التي قد تؤدي بهم إلى مسارات غير قانونية.
أما السبب الثاني فيتمثل في أن التاريخ يثبت بوضوح أن العقوبات الأكثر صرامة لا تردع الجريمة. فعندما يُقبض على مرتكبي الجرائم بتهمة الاحتيال أو غيرها من الأفعال غير القانونية، يواجهون عقوبات شديدة حتى في حال ارتكابهم هذه الجرائم للمرة الأولى. بالنسبة لطلاب الجامعات، قد يعني ذلك الطرد، وفي حالة الموظفين، يتم فصلهم من وظائفهم. علاوة على ذلك، يؤدي تسجيل الأفراد باعتبارهم أعضاء في ”قوى معادية للمجتمع“ أو الجريمة المنظمة في قواعد بيانات المؤسسات المالية إلى منعهم من فتح حسابات مصرفية حتى بعد إطلاق سراحهم من السجن. كما سيجدون صعوبة في توقيع عقود لشراء الهواتف المحمولة أو بطاقات الائتمان. وبالنسبة للبالغين، يمكن أن تعيق ”وصمة العار الرقمية“ في شكل سجل جنائي فرص العمل وإمكانية الزواج. نتيجة لهذا، يفقد العديد منهم الأمل ويسقطون في براثن اليأس، مما يزيد من احتمالات عودتهم إلى ارتكاب الجرائم ويؤدي إلى استمرار الحلقة المفرغة التي تخلق ضحايا جدد.
بدلاً من إعادة تأهيل المجرمين، فإننا بذلك ندفعهم إلى مسار ضيق حيث تكون فرصة النجاح في المستقبل ضئيلة، مما يساهم في نمو عالم الجريمة. ولهذه الأسباب، أعتقد أنه من غير المرجح أن تؤدي العقوبات الصارمة المفروضة على مرتكبي الجرائم لأول مرة إلى تقليص عدد الأشخاص الذين يتقدمون للحصول على وظائف بدوام جزئي مشبوهة. وإذا كنا نهدف إلى إعادة تأهيلهم، فيجب أن نمنحهم فرصة ثانية وأن نركز على توفير فرص جديدة لهم للاندماج في المجتمع بشكل إيجابي.
الوقاية من الانحراف
في الآونة الأخيرة، يبدو أن هناك ميلًا في المجتمع، مدعومًا من وسائل الإعلام، إلى تمجيد بعض مستخدمي اليوتيوب والمستثمرين الكاريزماتيين ”الجاذبين“، وأولئك الذين يتفاخرون بكسب ”أموال سهلة“. وهذا التوجه يعكس حالة من الاهتمام المبالغ فيه بالمظاهر السطحية، ويعزز فكرة أن النجاح السريع وغير التقليدي هو المقياس الحقيقي للنجاح.
وعلاوة على ذلك، يظهر أن الناس من جميع الأعمار أصبحوا مهووسين بمشاركة لمحات مختارة من حياتهم اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم صورة لأنفسهم وكأنهم يعيشون حياة براقة وجذابة، سعيًا لإثبات قيمتهم الذاتية أمام الآخرين. ومن الطبيعي أن يرغب الشباب الذين يتعرضون لهذا النوع من المحتوى في الحصول على فرصة ”الفوز الكبير“ كي يتمكنوا من العيش برفاهية.
وفي هذا السياق، تكمن الخطوة الأولى في منع الأطفال من الانحراف عن الطريق الصحيح في أن يعيد الكبار النظر في ترويجهم المفرط لأنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي. ينبغي أن تكون الأولوية في تعزيز نضج المجتمع الياباني ككل، فبمجرد أن يحدث هذا التغيير، سيكون من المرجح أن نشهد تحولًا في مواقف الشباب وتغييرًا تدريجيًا في توجهاتهم وسلوكياتهم.
(النص الأصلي نُشر باللغة اليابانية، الترجمة من اللغة الإنكليزية. صورة العنوان الرئيسي © بيكساتا)