حين ينجح الأدب الروائي في تجسيد معاناة المرأة اليابانية!

ثقافة

تشتهر الكتب الأكثر مبيعًا لكيرينو ناتسو بتصوير حياة النساء التي تعيش في ظروف بائسة. ولقد التقينا بالروائية مؤخرًا للتحدث عن المصاعب التي تواجه النساء الشابات في اليابان اليوم.

كيرينو ناتسو KIRINO Natsuo

روائية من مواليد 1951. لها العديد من الروايات الحائزة على جوائز أدبية ومن بينها رواية "أوت" (حاصلة على الجائزة الكبرى للروايات البوليسية في اليابان عام 1998) وغروتسك (حاصلة جائزة إيزومي كيوكا للأدب عام 2003) وطوكيوجيما (جزيرة طوكيو، حاصلة جائزة تانيزاكي جونئيتشيرو عام 2008). كما حصلت على وسام الشرف في عام 2015 (الشريط الأرجواني).

منذ أكثر من ربع قرن، صورت كيرينو ناتسو في رواياتها الأكثر مبيعًا حياة نساء عشن في ظروف بائسة كربّات البيوت اللائي يعملن وردية ليلية في مصنع لإنتاج الأغذية ومن ثم يتورطن في جريمة قتل، وموظفة في شركة مرموقة تحقق ذاتها عن طريق عرض جسدها للبيع في الشوارع ليلاً، وعضوة سابقة في الجيش الأحمر المتحد تتكتم على ماضيها. تصور رواياتها الظروف الصعبة التي تمر بها البطلات، وتكشف عن الجانب المظلم والمشاكل الهيكلية التي يعاني منها المجتمع الياباني في الوقت الراهن.

في روايتها روجو نو إكس (مجهول في الشوارع) التي صدرت عام 2018، تصوِّر حياة الطالبات في المرحلة الثانوية اللائي ضللن الطريق ويتم استغلالهن في عالم مشبوه من (المواعدة المدعومة مادياً) و"صناعة JK" (JK اختصار لمصطلح joshikōsei أو "فتيات المدارس الثانوية"). وسيتم عمله مسلسل في شوكان أساهي ابتداءً من الربيع المقبل.

فتيات هائمات على وجوههن في شوارع شيبويا

بطلة رواية "مجهول في الشوارع" هي "مايو" البالغة من العمر 16 عامًا وهي طالبة في السنة الأولى من المدرسة الثانوية. عندما هرب والداها من منزل العائلة، قام عمها وأسرته برعايتها. وفي ظل تدهور العلاقات بينهم، تعودت مايو على التسكع في شوارع شيبويا ثم وجدت عملاً بدوام جزئي، ولكنها تعرضت للاغتصاب فقررت الهرب، وفي النهاية أنقذتها ريونا البالغة من العمر سبعة عشر عامًا، والتي تكسب رزقها من أعمال JK المشبوهة وتعيش في شقة مع طالبة بجامعة طوكيو كانت فيما مضى إحدى زبائنها. تنضم مايو إلى هذه الحياة الغريبة حيث تنتقل للعيش مع ريونا وصديقتها ميتو الحامل بطفل من صديقها.

وعندما تحتاج إلى كسب المال، تمتثل ريونا لطلبات "الخيارات الخفية" التي تقدم خدمات جنسية لعملائها، ولكنها مصممة على عدم السماح لمايو بالتورط في هذا المجال، كما أن مايو نفسها لا تزال غير مدركة لطبيعة العمل الحقيقية، ولذلك ما تزال فكرة الانضمام إليهم مغرية بالنسبة لها. يتابع القارئ بشغف تطور الحياة غير المستقرة للفتيات الثلاث معًا. هل سيتمكنّ بطريقة أو بأخرى من إيجاد طريقة للمضي نحو مستقبل أفضل دون التورط في الجريمة والعنف؟

قابلت كيرينو مؤخرًا للحديث عن خلفية هذا الكتاب وعملية جمعه. ردت قائلة "أعتقد أن الكثير من النساء الشابات اليوم يعشن في ظروف فقر تجعل من الصعب عليهن رؤية أي أمل في المستقبل". "يدعي الناس أن الكثير منهن لا يريدن شيئًا أكثر من الاستقرار كربات بيوت وتلقي الدعم من أزواجهن. أنا متأكدة من أن السبب الرئيسي يكمن في شعورهن باليأس والإحباط من المستقبل. أردت أن أفهم المزيد عن الوضع، لكن في بادئ الأمر لم أكن أنوي رسم صورة سلبية للغاية وكانت فكرتي الأصلية تقوم على إظهار اتحاد هؤلاء الفتيات معاً لمقاومة الظلم. وبعد أن اطلعت أكثر على الحقائق، أدركت أن هذا الموقف يعكس المشاكل الخطيرة التي تنخر في هيكل مجتمعنا، واتخذت القصة منحنى مختلفًا تماماً عما كان في مخيلتي حين بدأت".

وعندما كانت تفكر في كيفية بدء كتابة الرواية، قرأت كيرينو كتاب Nanminkōkōsei (لاجئي المدارس الثانوية) الذي كتبته نيتو يومينو رئيسة منظمة كولابو، التي تعمل من أجل دعم النساء الشابات لمواجهة صعوبات الحياة. تستند أحداث الكتاب على السيرة الذاتية للروائية بعدما تركت المدرسة الثانوية واتجهت للتجول في شوارع شيبويا هرباً من الظروف الصعبة التي كانت تواجهها في المنزل، حيث كان والداها يتشاجران باستمرار. التقت كيرينو شخصيًا بصاحبة الرواية لمعرفة المزيد عن قصتها، والتي أطلعتها بشكل واضح على مدى صعوبة الوضع بالنسبة للفتيات الصغيرات اللائي ليس لديهن مكان يعدن إليه أو حتى مكان يمكنهن اعتباره بيتاً لهن.

وفي الوقت نفسه، لفت انتباهها تقارير الحادث المروع الذي وقع في مدينة إيو بمحافظة إهيمه في عام 2014، عندما تعرضت فتاة هاربة من البيت تبلغ من العمر 17 عامًا للاعتداء والقتل على أيدي عصابة تضم أفرادًا من العائلة التي لجأت إليها في البداية. تم العثور على جثة الضحية في خزانة الوحدة السكنية في نفس البلدة التي تعيش فيها الأسرة، حيث كان الفتيان والفتيات يجتمعون في سن المراهقة لتمضية الوقت سويًا، قالت: "لقد كان مكانًا خطيرًا خاصة مع وجود جميع الأنواع المختلفة من المراهقين القادمين والمغادرين. لقد ألهمني هذا الحادث أن أكتب قصة حول الفتيات الصغيرات في سن المدرسة الثانوية اللاتي تتعرضن للإيذاء أو الإهمال من قبل الوالدين ولم يكن لديهن مكان يعدن إليه".

بينما كانت القصة تأخذ تسلسلها، كانت كيرينو تتجول بانتظام في مناطق مثل شيبويا وشينجوكو وأكيهابارا أثناء الليل، لمراقبة الشابات هناك وقامت أيضاً بإجراء مقابلات مع مديرين وكشافة كانوا يعملون سابقاً في أعمال JK. تتحدث عن رجال في منتصف العمر يخبرونها بهدوء أن "أسر الأمهات العازبات هي أشياء مثيرة" (لأن الفتيات الصغيرات اللاتي نشئن في أسر محرومة اقتصاديًا هن طعم سهل لأعمال JK)، وأعينهم تلمع بينما يتحدثون عن الفتيات في سن 17 عاماً أو أقل "النوع الذي يمكن فعلاً أن تقع في حبه بسبب "تكوينهن الجسدي المختلف". تقول كيرينو إن العديد من هؤلاء الرجال يعتبرون أنهم فقط يعملون على إشباع رغبات الفتيات المادية. على الرغم من أنها غالباً ما استشعرت الترفع والتلطف وإصدار الأحكام المسبقة في بعض كلامهم، ولم تشعر ولا لمرة واحدة بندمهم أو حتى إدراكهم لما يقومون به من استغلال لهؤلاء الفتيات الصغيرات وتعريضهن لإيذاء جسدي ونفسي.

"في التسعينات، عندما ظهر مصطلح enjokōsai (المواعدة المدعومة مادياً) لأول مرة في وسائل الإعلام، أفترض أن جانبًا كبيراً من وسائل الإعلام كان يرى أن هؤلاء الفتيات الصغيرات يقمن باستغلال الرجال الأكبر سناً وخداعهم كوسيلة لكسب بعض المال الإضافي. لقد كانت هناك قصص عن فتيات يقمن ببيع ملابسهن الداخلية المستعملة إلى المتاجر بأسعار مرتفعة للغاية، وأشياء من هذا القبيل. لكن الأمر ليس كذلك الآن، إذا كان هذا فعلياً واقع الأمر فيما مضى. إن الحقيقة الواضحة اليوم هي أن هؤلاء الشابات هن ضحية للاستغلال بصورة كاملة".

تدهور ظروف الشابات أكثر من أي وقت مضى

تقول كيرينو إن الصعوبات التي تواجه الشابات ليست جديدة، فقد كانت قائمة أيضاً عندما كانت صغيرة، كما تتذكر.

"لكن ذلك كان في أيام النمو الاقتصادي السريع، حيث كان بإمكان الأسرة العيش برغد اعتماداً على دخل الوالد فقط، مع بقاء الأم في المنزل لرعاية الأسرة. كانت الأنماط التقليدية للحياة العائلية لا تزال سليمة، وكنت تشعر دائمًا أن لديك مكانًا للرجوع إليه بالرغم من وجود صعوبات. لم يكن هناك وجود لهذا الإحساس بالعزلة والشعور بانهيار النظام الذي تعاني منه العديد من النساء الشابات اليوم. إن الوضع يبدو ميؤوسًا منه حيث ازداد عدد أسر الأمهات العازبات، ويعيش عدد متزايد من الناس الآن في فقر حقيقي وتواجههم مصاعب جمة".

"من بين المشكلات التي نواجهها كمجتمع هو العدد المتزايد من الأشخاص الذين يعملون في وظائف غير نظامية ذات مزايا قليلة، وغالبًا ما تكون بأجور منخفضة. اليوم، حوالي 70% من العاملين في مثل هذه المناصب هم من النساء، وهناك فجوة آخذة في الاتساع بين نخبة صغيرة نسبيًا وأغلبية متزايدة من الأشخاص المجبرين على أداء هذه الوظائف غير المستقرة ذات الأجور المتدنية. النساء الشابات على وجه الخصوص تعاني من الحرمان في ظل هذا النظام وغالبًا ما يجدن أنفسهن يعملن في وظائف لا مستقبل لها نظير أجر زهيد. لقد أصبح هذا الوضع راسخاً الآن باعتباره الطريقة التي تمت على أساسها هيكلة الصناعات، بحيث أًصبح من الصعب على الأشخاص العالقين في هذه الوظائف رؤية أي أمل في المستقبل".

وصف الجانب المظلم من المجتمع

لعل أحد الأسباب التي جعلت كيرينو تقرر تجربة حظها ككاتبة هو التمييز ضد المرأة الذي عانت هي نفسها منه أثناء بحثها عن عمل وفي مكان العمل أيضاً. تزوجت كيرينو في العشرينات من عمرها، لكنها تقول إنها لم تشعر بالراحة أبدًا لفكرة أن تكون "ربة منزل"، فشرعت في الكتابة بعد أن بلغت الثلاثين من عمرها، وأصدرت في البداية قصصًا رومانسية وروايات موجهة للمراهقين، وأخيراً شعرت أن الكتابة الإبداعية منحتها طريقة للتعبير عن نقاط قوتها. في عام 1993، فازت بجائزة إيدوغاوا رانبو عن رواية Kaonifurikakaruame (الأمطار تتساقط على وجهي)، وهي رواية مكتملة النضج تضم محققة خاصة تدعى مورانو ميرو. يبدو أن هناك عدة كتب أخرى في سلسلة ميرو قد حازت على مراجعات إيجابية، ولكن العمل الذي رسّخ حقًا لسمعتها ككاتبة كانت "أوت" الذي ظهر عام 1997. حبكة الرواية مذهلة، حيث تتعاون مجموعة من النساء العاديات معًا للتخلص من جثة زوج زميلة لهن في العمل كان يسيء معاملتها، مما جعل الكتاب يحقق نجاحاً مذهلاً وصدرت منه نسخة باللغة الإنجليزية في عام 2004، وترشحت الرواية لجائزة إدغار التي تعد الجائزة الأرفع في أمريكا ويتم تقديمها للروايات التي تتسم بالغموض.

رواية "أوت"، مع تصويرها لنساء تعرضن إلى أقصى حد ممكن من الضغوط، شكلت تغييراً بالنسبة لكيرينو، مما دفعها إلى التركيز أكثر على الأعمال التي تكون القضايا الاجتماعية هي المحرك الرئيسي للأحداث فيها. أصبحت رواياتها تتمحور حول حوادث القتل والاختطاف والأشخاص المفقودين مع نسج حبكة روائية مليئة بالغموض والتشويق بمهارة فائقة نجحت في جذب انتباه القارئ الذي لا يسعه إلا قراءة الرواية حتى الصفحة الأخيرة. كانت رواياتها مختلفة تمامًا عن تلك الروايات الغامضة التقليدية "الترفيهية"، وتميزت بأسلوب جديد نجح في تصوير الجانب المظلم من المجتمع والطبيعة الإنسانية.

"في إحدى المراحل، لم أكن أحب أن يشار إلى أنني دائماً باعتباري كاتبة روايات غامضة، وقررت أنني أريد أن أتوقف قليلاً عن كتابة الحبكات على طريقة روايات الجريمة. أنا مهتمة أكثر بتصوير الأشخاص في المواقف الصعبة، هؤلاء الذين يُزج بهم في مواقف مستحيلة ويجدون ظهورهم للحائط دون ذنب اقترفوه، وهذا ينطوي حتما على وصف التوترات والضغوط في المجتمع. وإذا كنت بصدد الكتابة عن أشخاص يتعرضون للتنمر والاعتداء، أو الأشخاص المعزولين عن الاتجاه السائد، فمن المؤكد أنك ستكتب عن النساء في معظم الأحيان. إن المشكلات التي تواجهها المرأة في المجتمع المعاصر معقدة وحساسة، لذا أحاول دائمًا أن أحرص على ألا تكون معالجتي لهذه القضايا سطحية".

هل ثمة ضوء في نهاية النفق؟

إن العديد من روايات كيرينو مستوحاة من أحداث واقعية؛ فهي تعشق أن تطلق العنان لخيالها ليمعن التفكير في حوادث مثل أعمال المنظمات الإرهابية التابعة للجيش الأحمر المتحد أو مثل الجريمة الشهيرة لواتانابي ياسوكو الباحثة الاقتصادية البارزة في تيبكو، التي قُتلت أثناء عملها الإضافي كعاهرة في شيبويا. تقول كرينو: "عندما أكتب قصصًا مستوحاة من أحداث حقيقية أكون غير متأكدة من تأثيرها على الواقع، وكيف يمكن أن تكون الانعكاسات والتداعيات".

لقد قامت كيرينو بكتابة روايتها "باراكا" قبل "مجهول في الشوارع"، التي بدأ تسلسلها بعد شهرين من زلزال توهوكو وكارثة تسونامي في مارس/آذار عام 2011. في البداية، لم تكن كيرينو تنوي الكتابة عن الكارثة على الإطلاق، ولكن عندما شرعت في الكتابة، وجدت القصة تتحول إلى رواية بائسة تدور أحداثها في اليابان خلال الكارثة التي حدثت في محطة فوكوشيما دايتشي للطاقة النووية وخرجت عن نطاق السيطرة، مع حدوث انفجارات كبيرة في جميع المفاعلات الأربعة. تقول كيرينو: "في ذلك الوقت، كان الوضع في محطة الطاقة النووية لا يزال يتطور، لذا كنت دائمًا قلقة من احتمال أن أكتب شيئًا قد يتضح فيما بعد أنه خاطئ للغاية. ولكن بعد وقوع الكارثة، أدركت أنه لا يمكنني فقط مواصلة الكتابة بشكل عادي وكأن شيئًا لم يحدث".

أثناء تسلسل أحداث رواية "مجهول في الشوارع"، تقول كيرينو بأنها عانت كثيراً بينما كانت تحاول تصور أي مستقبل مشرق للشابات اللاتي كانت تكتب عنهن، وتقول في وصف ما كانت تشعر به: " كأنني أمشي في نفق حالك السواد، لا نهاية له على مرمى البصر. حتى عندما انتهيت لم يكن لدي أي شعور بالإنجاز، لقد كنت الشخص الذي وضع نهاية ً للرواية ولكنني شعرت أنه لا يمكن للقصة أن تنتهي بهذا الشكل".

هل ستنجح كيرينو وشخصياتها في العثور على النور في نهاية النفق؟ وبصفتي أحد القراء لرواياتها، أظن أنه من المستحيل ألا نأمل أن تجد شخصياتها على الأقل بصيصًا من النور في مكان ما في الظلام.

تقول كيرينو ناتسو:الصعوبات التي تواجهها النساء الشابات اليوم تفوق ما واجهناه نحن عندما كنا صغيرات
تقول كيرينو ناتسو:"الصعوبات التي تواجهها النساء الشابات اليوم تفوق ما واجهناه نحن عندما كنا صغيرات". (تم التقاط الصورة في طوكيو، يوليو/ تمّوز 2019)

(نُشر النص في الأصل باللغة اليابانية. الترجمة من الإنكليزية. تم إعداد المقابلة والنص بواسطة إيتاكورا كيمي، الصور بواسطة هاشينو يوكينوري، كلاهما من طاقم عمل Nippon.com).

المرأة المرأة اليابانية العمل