الآثار السورية تحت خط النار

سياسة ثقافة

تتناقل وسائل الإعلام المختلفة المآسي التي يعاني منها الشعب السوري جراء الحرب القائمة وفي نفس الوقت تتعرض ممتلكاتها الثقافية ومواقعها الأثرية لخطر التدمير والنهب والسرقة. وفي خضم هذه الأحداث تحاول مجموعة أكاديمية من الجانبين السوري والياباني تسليط الضوء على الدمار الذي لحق بالآثار السورية وإيجاد بعض الحلول المؤقتة لحماية ما تبقى منها وكذلك بناء خطة مستقبلية لإعادة الإعمار والترميم.

يوسف كنجو Youssef Kanjou

مواليد عام ١٩٧١. حاز على درجة الدكتوراة في علم الانتروبولوجيا من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك. عمل كمساعد لأمين لقسم ما قبل التاريخ في متحف حلب الوطني حتى عام ٢٠٠٣. ومن ثم تولى منصب مدير قسم التنقيب في متحف حلب حتى عام ٢٠١٠. وبعد ذلك تولى منصب مدير متحف حلب. كما عمل كمحاضر في جامعة حلب (قسم الآثار). وهو حاليا استاذ زائر في جامعة طوكيو.

يايوئي يامازاكي Yayoi Yamazaki

ولدت في كيوتو عام ١٩٥٨. درست في جامعة هيروشيما حتى حازت على درجة الماجستير. وفي عام ١٩٨٩ وفدت إلى سوريا كباحثة والتحقت بالبعثات التنقيبة في موقعين أثريين هما تل العبر وتل بيدر. كما شاركت مع الفريق الياباني في مشروع ترميم معبد عين دارا. كما عملت كمتطوعة ومن ثم خبيرة لجايكا بمجال العرض المتحفي في كل من سوريا والأردن. وكذلك عملت كمحاضرة في قسم الآثار بجامعة حلب.

تتناقل وسائل الإعلام المختلفة المآسي التي يعاني منها الشعب السوري جراء الحرب القائمة وفي نفس الوقت تتعرض ممتلكاتها الثقافية ومواقعها الأثرية لخطر التدمير والنهب والسرقة. وفي ظل عدم وجود تحرك دولي حقيقي على الأرض، اقتصرت الجهود الدولية على بعض المناشدات لإيقاف القتال وإلحاق الضرر بالآثار والممتلكات الثقافية.

وفي خضم هذه الأحداث تحاول مجموعة أكاديمية من الجانبين السوري والياباني تسليط الضوء على الدمار الذي لحق بالآثار السورية وإيجاد بعض الحلول المؤقتة لحماية ما تبقى منها وكذلك بناء خطة مستقبلية لإعادة الإعمار والترميم. كمبادرة أولى أقيمت في ٣١ أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري ندوة بعنوان (التراث الثقافي وإعادة إحياء سوريا) وذلك لنشر الوعي والنقاش حول كيفية حماية الآثار السورية.

سنقدم لكم في هذه المقالة الحوار الذي أجريناه قبيل انعقاد الندوة مع القائمين عليها وهما الدكتور يوسف كنجو مدير متحف حلب الوطني الخبير بعلم الأنتروبولوجيا ويايوئي يامازاكي الباحثة في الآثار السورية التي امضت أكثر من عشرين سنة في سوريا، وقد تضمن هذا الحوار لمحة عن المواقع الآثرية السورية والدمار الذي لحق بها وعن الجهود المشتركة بين البلدين لضمان مستقبل هذا التراث العالمي ونقله إلى الأجيال القادمة.

التراث الحضاري السوري وتاريخ التعاون السوري ـ الياباني

هل من الممكن أن تعطونا لمحة عن التراث الحضاري في سوريا؟

يامازاكي : إن لسورية حضارة مميزة تتمتع بالمرونة والقدرة على تقبل كل الحضارات التي عبرت خلالها، ونتيجة لذلك كانت سوريا مهدا للآثار التي تركتها تلك الحضارات.

سوق حلب القديمة.

كنجو : إن تاريخ سوريا زاخر وهي مهد لمواقع أثرية لا تعد ولا تحصى، ولعل أهم تلك المواقع السورية هي ممالك إيبلا وماري وأوغاريت التي تم الكشف عنها في بداية القرن العشرين، ونتيجة لذلك أنشئ متحف حلب الوطني الذي يضم جميع اللقى الأثرية المكتشفة في أنحاء الشمال السوري. وإضافة إلى ذلك لدينا مدن مسجلة على لائحة يونيسكو للتراث العالمي وهي مدن حلب القديمة التي يبلغ عمرها خمسة آلاف سنة ومدينة دمشق وتدمر التي تعود إلى ثلاثمئة سنة قبل الميلاد وكذلك بصرى وغيرها من المواقع.

ما لا يعرفه الكثير من الناس أنه كان هناك عدد من البعثات الأثرية اليابانية التي كانت تنقب في سوريا منذ أكثر من ٥٠ سنة فضلا عن وجود العديد من الخبراء اليابانيين الذين عملوا في مجال التراث والآثار. هل يمكنكم الحديث عن تاريخ التعاون السوري الياباني في هذا المجال؟

 يامازاكي : بدأت عمليات التنقيب الأثري الياباني في ستينات القرن الماضي وكانت آنذاك عبارة عن بعثة وحيدة. ولكن بعدما تم بناء سد الفرات في السبعينات أعلن الجانب السوري عن فرص للتنقيب وإنقاذ الآثار من الغمر، فتهافتت دول عديدة للحصول على حق التنقيب، وتمكن اليابانيون من الحصول على فرصة التنقيب في مواقعين أثريين وتم على إثر ذلك إنشاء متحف الشرق في طوكيو.

كنجو : يوجد في أنحاء سوريا حوالي ست بعثات أثرية يابانية تنقب في مواقع ذات عصور مختلفة. وهناك العديد من الخبراء والباحثين والطلاب الذين كانوا يتوافدون إليها على مدار السنة للدراسة في كافة المجالات المتعلقة بالتراث والآثار.

يامازاكي : أما بالنسبة للتعاون بين البلدين فهناك العديد من المؤسسات ومراكز الأبحاث والجامعات التي عملت مع الجانب السوري في مجالات عدة.

فعلى سبيل المثال قامت وكالة اليابان للتعاون الدولي (جايكا) بتوفير الدعم المادي كالأجهزة التقنية والمعدات اللازمة للأبحاث والتنقيب إلى جانب الدعم البشري كإيفاد الخبراء لتطوير وتحسين المتاحف، وكذلك إرسال وفود لحماية الوثائق والمخطوطات العثمانية في دمشق. كما عمل معهد أبحاث طوكيو للممتلكات الثقافية على مشروع لترميم معبد عين دارا أحد المعابد الموجودة في الشمال السوري. كما تبذل البعثات الأثرية نفسها جهودا لترميم مكتشفاتها وتقديم ما تستطيع من الدعم في كافة النواحي التقنية والبحثية.

آثار الحرب الضارية على التراث السوري

ما حجم الأضرار التي تعرضت لها هذه المدن والمواقع الأثرية؟

كنجو : تتعرض الآثار السورية لنوعين من الأضرار : الأول متمثل بالتنقيبات الغير قانونية والثاني بالتخريب الناجم عن الاشتباكات الحاصلة بين الأطراف المتقاتلة. فهذه الإشتباكات أدت إلى تدمير العديد من المباني التاريخية في حلب القديمة وإلى الحريق الذي شب بالسوق الموجود فيها وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة تدمر التي أدت فيها القذائف والصواريخ إلى تخريب بعض أعمدتها وأبنيتها.

وفي ظل غياب الأجهزة الأمنية المسؤولة عن حماية الآثار أصبحت المواقع الأثرية هدفا سهلا وضحية للسرقة. وتشير التقارير الرسمية إلى أن حوالي ٨٠ ٪ من المواقع الأثرية تتعرض للتنقيب السري في الوقت الحالي. أما بالنسبة للمتاحف فكان الضرر أقل نسبياً من المواقع الأثرية وذلك لوجود نوع من الحماية الذاتية التي ضمنت عدم حصول سرقات وخاصة في المتاحف الرئيسية.

آثار القذائف الملقاة على جدران أحد المعابد الأثرية في تدمر.

تضرر أحد أعمدة مدينة تدمر الأثرية.

يامازاكي : للأسف الشديد تتعرض هذه الأثار للتهديد الدائم من خطر التدمير والسرقة. كحرق سوق حلب القديمة، فضلا عن عمليات التنقيب الغير قانونية كما هو الحال في موقع إيبلا. وبالنسبة للمدن القديمة فإن الدمار لم يقتصر على المباني التاريخية فحسب وإنما تعداه ليطال حياة الناس الذين مازالوا يعيشون في تلك الأحياء القديمة والذين اتخذوا من هذه المباني بيوتا لهم وأماكنا لمزاولة تجاراتهم وأعمالهم. لذلك فإنني أشعر بالألم والحزن على الآثار والناس الذين تضرروا مرتين جراء هذه الحرب.

السوق القديم وهو يضج بالحياة قبل الحرب (اليمين) وبعدما أصبح مهجورا ومهدما (على اليسار).

الضرر الذي لحق بالجامع الأموي بحلب.

انهيار مئذنة الجامع الأموي بحلب بسبب القصف.

آثار الإنفجار الذي هز متحف حلب الوطني.

ما هي الإجراءات والإستراتيجات التي تم اتخاذها لضمان حماية المتاحف في ظل الظروف الراهنة؟

يامازاكي : اتذكر لدى زيارتي الأخيرة إلى سوريا والتي قمت بها قبل وصول موجة الصراع إلى حلب بفترة وجيزة أن الموظفين في المتحف بدؤوا بإزالة القطع الأثرية من خزائن العرض حرصا عليها من السرقة والضرر الذي قد يصيبها.

كنجو : هذا ما حصل تماماً. لقد تعلمنا من التجربة العراقية، فقمنا بأخذ احتياطاتنا قبل وقوع الأحداث في حلب، ونظراً للتدرج البطيء للأحداث في المدن الكبرى تمكننا من حماية المتاحف الرئيسية، ولكن في بعض المتاحف الصغيرة فقد جرت الأحداث بشكل مفاجىء، وللأسف الشديد لم نستطع من الحؤول دون سرقة بعض اللقى الأثرية. أما في الوقت الحالي فقد اختلفت استراتيجة الحماية بعض الشيء، فبالإضافة إلى الحماية من السرقة نحاول الآن حماية المتاحف من الأسلحة الثقيلة والطائرات والتفجيرات التي قد تحصل حول مبنى المتحف.

حماية الواجهة الرئيسية لمتحف حلب الوطني من الأسلحة الثقيلة.

التحركات اليابانية ـ السورية من أجل مستقبل الآثار والإنسان

يامازاكي : الوضع الأمني والسياسي في سوريا الآن في حالة فوضى ولا يمكننا التحرك على الأرض في ظل هذه الظروف ولكن أظن أن الوقت لم يفت بعد.

ولقد شرعنا في اليابان بالتعاون مع الدكتور كنجو لعمل ندوة بعنوان (التراث الثقافي وإعادة إحياء سوريا). وستكون هذه الندوة نقطة انطلاق نقوم من خلالها بالمساهمة لربط الآثار والتراث بحياة الإنسان، حيث نأمل بإعادة إعمار حياة السوريين من خلال إعادة تأهيل التراث الثقافي فيها. وأعتقد أن هذه المبادرة عملية ومنطقية لتغيير الموقف الحالي السائد الذي نتخذه تجاه سورية فبدلا من الجلوس والنحيب نريد أن نفكر بإيجابية من أجل المستقبل. وقد يقول البعض إنه وفي هذه الظروف يجب أن نهتم بحياة الإنسان أكثر من الآثار هذا بالطبع صحيح، ولكننا نريد من خلال هذه الندوة أن نبين لهؤلاء الناس أن الآثار والإنسان جزءان لا يتجزءان لكيان واحد.

لدى اليابان مؤسسات ومراكز بحث عريقة تتمتع بخبرات وكفاءات عالية ولكن المشكلة تكمن بعمل كل منها بشكل منفصل عن الآخر وهذه هي إحدى الأسباب التي تؤدي إلى تأخر أو عدم تنفيذ المشاريع. وكذلك الأمر بالنسبة للباحثين اليابانيين، فكما ذكرنا سابقا هناك العديد من البعثات الأثرية التي تعمل في سوريا، بالطبع يوجد هناك نوع من التواصل وتوجد ندوات لتقرير نتائج الأبحاث ولكن هذا ليس كافيا لتطوير الوضع، ولذلك لربما تكون هذه الندوة المرة الأولى التي يجتمع فيها هؤلاء الباحثين للنقاش حول موضوع موحد، كما ستكون فرصة للإجتماع مع مسؤولي المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والإعلاميين وعامة الناس لإبراز دور كل منهم في نشر الوعي حول ما يجري في سوريا، ولذلك فإنني متحمسة للغاية لانعقاد هذه الندوة.

محاولات جاهدة من قبل جمعية حماية الآثار للحفاظ على الممتلكات الثقافية الموجودة.

كنجو : يجب أن نقدم للآثار الدعم لنستطيع دعم المجتمع. ولكن علينا أن نشرح للمجتمع السبب الكامن وراء دعمنا للآثار. للأسف الشديد هناك العديد من الفئات التي لا تفكر إلا بالقيمة المادية للآثار ولا تدرك ما منبع هذه القيمة وبالطبع ذلك يؤدي إلى إهمالها أو الإتجار بها.

ولربما حلب القديمة هي مثال حي على تعايش الآثار مع المجتمع وعلى تعدي الآثار لقيمتها المادية، فالناس كانوا يعيشون ويمارسون فيها حياتهم الإجتماعية والإقتصادية والدينية، فإذا دمرت هذه المدينة فإن ذلك يعني تدمير ذكرياتهم. فقد ذكر لي أحد ساكني هذه الأحياء إنه لا يخاف على فقدان تجارته أكثر من خوفه على ضياع ذكرياته فيها، فلذلك عندما نقوم بترميم هذه الأحجار فإننا نقوم بإعادة إحياء ذكريات هؤلاء الأشخاص.

الرسالة الموجهة إلى العالم

كنجو : إن الرسالة التي أبعثها إلى المجتمع الدولي هي توحيد المواقف والمحاولة بأي طريقة تتسنى لهم لنشر الوعي ومحاولة ردع الإتجار بالآثار، وذلك لأن الممتلكات الثقافية السورية هي ليست ملك للسوريين وحدهم بل هي إرث مشترك للجميع وضياعه يعني خسارة للإنسانية جمعاء.

يامازاكي : كما ذكر الدكتور كنجو سابقا إن دمار هذه الآثار يعني ضياع ذكريات من يعيشون حول هذه الآثار. قد لا يعلم الناس حول العالم عن الآثار السورية، ومهما حاولنا شرح مدى عظمتها فلن نستطيع توليد هذا الشعور بالتعاطف نحوها ولكن ما يمكن للعالم أن يتعاطف معه هو الألم الذي يعانيه المرء نتيجة فقدان ذكرياته، فعلى ذلك فإنني أدعو الناس في جميع أنحاء العالم للوقوف إلى جانب الشعب السوري ومحاولة إيقاف الاستنزاف المستمر لذكرياته.

(أجري الحوار في ٢٣ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٣، الصور مقدمة من الدكتور يوسف كنجو، صور الحوار: يامادا شينجي)

التراث الثقافي سوريا