كيف نجح المزارعون اليابانيون في إصلاح ما أفسدته الميكنة من خلال إحياء أساليب الزراعة التقليدية التي تحترم الطبيعة

مجتمع

كان مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية، الذي عقد في ستوكهولم عام 1972، قفزة كبيرة على طريق معالجة العديد من القضايا البيئية. ولكن في السنوات التي تلته، ازداد تعقيد العديد من القضايا البيئية مثل الاحتباس الحراري. في هذا الموضوع نحاور العالم المخضرم تاكيؤتشي كازوهيكو، رئيس معهد الاستراتيجيات البيئية العالمية، حول أهم القضايا البيئية التي تشغل العالم.

تاكيؤتشي كازوهيكو TAKEUCHI Kazuhiko

رئيس معهد الاستراتيجيات البيئية العالمية ومتخصص في الدراسات البيئية وعلوم الاستدامة. ولد عام 1951، حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الزراعة من جامعة طوكيو. كان أستاذا بجامعة طوكيو ونائب رئيس جامعة الأمم المتحدة. شغل عدة مناصب أخرى من بينها منصب رئيس المجلس المركزي للبيئة ونائب رئيس مجلس العلوم الياباني. يشغل منصبه الحالي منذ عام 2017. تشمل أعماله Sekai nōgyō isan (أنظمة التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية) و Chikyū jizoku-gaku no susume (النهوض بعلوم الاستدامة العالمية).

علم الاستدامة من منظور جديد

قد لا يكون العديد من قرائنا الكرام على دراية بـ ”علم الاستدامة“، وهو مجال جديد من الدراسات يسعى إلى دمج القضايا البيئية العالمية مع استدامة المجتمع البشري. لم تتمكن الأنظمة الأكاديمية التقليدية التي قسّمت البحث إلى مجالات متخصصة من تكوين نظرة شاملة على العلاقات المتداخلة والمعقدة للمشاكل البيئية، مما يعيق العديد من المبادرات، وللتغلب على التحديات الحالية ينبغي تكوين منظور شامل عن الظواهر المختلفة. لهذا، اقترح تاكيؤتشي كازوهيكو، رئيس معهد الاستراتيجيات البيئية العالمية، مجموعة من الاستراتيجيات البيئية القائمة على مفاهيم علم الاستدامة.

”حتى الآن، نجحت الدراسات متعددة التخصصات وحدها في تجاوز الحواجز بين فروع التعلم. إلا أن علم الاستدامة يتجاوز هذا باعتباره شكلاً من أشكال الدراسات متعددة التخصصات، حيث ترتبط نتائج أبحاث المتخصصين بالعمل التعاوني مع الحكومات والشركات ومجموعات المواطنين وغير ذلك. ولهذا فإن لم تتعاون مجموعات أصحاب المصلحة لحل المشكلات، فسوف يكون من العسير الحفاظ على الاستدامة العالمية“.

في الجامعة، تخصص تاكيؤتشي في علم الجغرافيا باحثًا عن مجال يربط العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية والاجتماعية. لكن في ذلك الوقت، كانت الدراسات تركز على تحليل الماضي، مع القليل من الربط بالمجتمع. لذا تحول تاكيؤتشي إلى دراسات تنسيق المناظر الطبيعية، والتي قدمت نتائج بحثية مفيدة للمجتمع تُعنى في المقام الأول بتخضير البيئة وحماية الطبيعة. واصل تاكيؤتشي بحثه في كلية الدراسات العليا، وفي عام 1976، عندما كان باحثًا زائرًا في معهد في بون بألمانيا الغربية، تعرّف على مفهوم ”علم البيئة الطبيعية“ الذي اقترحه الجغرافي الألماني كارل ترول (1899-1975).

”في اليابان، يشير مصطلح (منظر طبيعي) إلى المشاهد الطبيعية ذات الصلة بالإدراك البصري، لكن ترول اعتبر أن هذا المفهوم يشمل أنشطة الطبيعة والبشر الكامنة وراء ذلك، فمفهوم ترول يدمج في تفسيره السمات الجغرافية والجيولوجية وأنظمة المياه والنباتات، أو بمعنى آخر، محاولة إيجاد رؤية متكاملة للمناظر الطبيعية من وحي البيئة الطبيعية التي تضم نظامًا بيئيًا إقليميًا متجانساً. كما أن مصطلح (منظر طبيعي) يعترف بكون المناظر الطبيعية مرتبطة بالأنشطة البشرية كالزراعة والغابات، فضلاً عن الحياة الحضرية. لقد حاولت النظر إلى البيئة الطبيعية ككل من هذا المنظور الواسع الذي يتجاوز دراسات الجغرافيا والمناظر الطبيعية فقط، ودمج مجالات علمية أخرى مثل علم المناخ والهيدرولوجيا وعلوم التربة. ومن هذه النقطة بدأت في البحث عن شكل من أشكال الدراسات البيئية التي تتجاوز الإطار الأكاديمي الحالي، وبحثت عن طريقة لتطوير ذلك ودمجه في علم الاستدامة“.

دور المزارعين البسطاء في الحفاظ على التنوع البيولوجي العالمي

تعد أنظمة التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية (GIAHS) من الأمثلة الملموسة التي تم تطويرها استناداً إلى مفهوم تاكيؤتشي عن بيئة المناظر الطبيعية، وقد تم الإعلان عنها في عام 2002 من قبل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. كانت GIAHS من بنات أفكار الدكتور بارفيز كوهفكان، ذي الأصول الإيرانية، والذي شغل منصبًا رفيعًا في منظمة الأغذية والزراعة، وهو الآن رئيس مؤسسة التراث الزراعي العالمي. على عكس قوائم التراث العالمي التابعة لهيئات الأمم المتحدة التربوية والعلمية والثقافية، والتي تهتم بتسجيل الآثار وبقايا الأزمنة القديمة، يضم GIAHS التقنيات الزراعية التقليدية التي يجب الاحتفاظ بها ونقلها للأجيال القادمة، جنباً إلى جنب مع مناظر المزارع والقرى المرتبطة بهذه الثقافات الزراعية. ولقد حددت منظمة الأغذية والزراعة 72 نظامًا في 23 دولة كنظم للتراث الزراعي، من بينها 13 نظاماً مستخدماً في اليابان (اعتبارًا من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022).

أجرى تاكيؤتشي، الذي كان آنذاك نائبًا لرئيس جامعة الأمم المتحدة، مناقشات عديدة مع كوهافكان وتمكن من إقناعه بالموافقة على مبادرته التي تقضي بتوسيع نظام الاعتراف، والذي كان مطبقًا فقط على البلدان النامية، ليشمل المناطق الزراعية الريفية وقرى الصيد في اليابان، والآن تم أيضًا تسجيل الأنظمة المستخدمة في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وكوريا.

”يبدو أنها مبادرة غير عادية لمنظمة الأغذية والزراعة، تهدف إلى حل قضايا الغذاء العالمية من خلال الإنتاج الضخم للمحاصيل. لقد أدى التحول الصناعي في مجال الزراعة إلى تدهور الأراضي والتصحر، ولم يعد بفائدة على الأشخاص الذين يعيشون في القرى الزراعية. ومع ذلك، يتم إنتاج 70% من المنتجات الزراعية في جميع أنحاء العالم في عمليات ضيقة النطاق تقوم بها الأسر الزراعية البسيطة، ولا تزال الأراضي الزراعية التي احتفظ بها هؤلاء الأشخاص تدعم النظم البيئية الطبيعية وتساهم في الحفاظ على التنوع البيولوجي“.

(كاواموتو سيا)
(كاواموتو سيا)

ومن بين الأمثلة على أنظمة التراث الزراعي العالمية، الزراعة في جبال الأنديز في بيرو، حيث تُزرع البطاطس على ارتفاع يصل إلى 4000 متر فوق مستوى سطح البحر، ونظام زراعة الأرز والأسماك في الصين، حيث تُربى الأسماك في حقول الأرز الرطبة، ليس فقط لتوفير الغذاء، ولكن أيضًا لكونها تتغذى على يرقات الآفات والأعشاب. تحافظ هذه النظم الزراعية على العلاقات التقليدية بين الناس والطبيعة. فالمناظر الطبيعية التي نشأت من رحم هذه الأنشطة لا تنحصر أهميتها في كونها جميلة تسر الناظرين فقط، بل إنها تساعد أيضًا في الحفاظ على النظم البيئية. وقد تم تسجيل نظامين زراعيين في اليابان عام 2011، في سابقة هي الأولى من نوعها لدولة متقدمة. أحد تلك الأنظمة متبع في جزيرة سادو بمحافظة نيغاتا، حيث قلل مزارعو الأرز من اعتمادهم على المبيدات الحشرية الزراعية والأسمدة بفضل طيور أبو منجل التي تعتبر كنزًا طبيعيًا على المستوى الوطني. أما النظام الثاني فهو متبع في نوتو بمحافظة إيشيكاوا التي تشتهر بحقول أرز سينمايدا المدرّجة، بالإضافة إلى (ama) وهن النساء اليابانيات اللواتي يمتهنّ الغوص لجمع الأصداف والأعشاب البحرية، وكلاهما مثالان على التعاون والتجانس البشري مع الطبيعة. وقد أشارت قائمة نوتو إلى أهمية ساتوياما (المناطق الوسطى شبه الطبيعية الواقعة بين البرية المحمية والمناطق المأهولة بالسكان) وساتومي (البيئات البحرية التي تحتوي على عناصر طبيعية وبشرية).

مبادرة ساتوياما تثير الجدل

في الوقت نفسه، كان تاكيؤتشي شخصية رئيسية تقود مبادرة ساتوياما اليابانية. في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي COP10، وتحديداً في الاجتماع العاشر لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية التنوع البيولوجي الذي عقد في ناغويا عام 2010، تحدث عن الأهمية العالمية لساتوياما اليابانية بالتعاون مع جامعة الأمم المتحدة ووزارة البيئة اليابانية.

وساتوياما هي مناطق منخفضة تختلط فيها الغابات وحقول الأرز والخزانات والبساتين والأراضي العشبية، مع قدر ضئيل من التدخل البشري. توفر الضفادع الصغيرة وأسماك الأرز غذاءً للطيور المائية، كما أن المراعي المزروعة لتغذية الماشية هي أيضًا موطن للحشرات، فتعيش شتى أشكال الحياة في وئام وتحافظ على التنوع البيولوجي. تمثل الغابات ما يقرب من 70% من مساحة اليابان، ورغم أن معظمها خاضع لإدارة البشر، إلا أن السكان المحليين يتعايشون مع الطبيعة في انسجام تام. لكن دخول اليابان مرحلة النمو الاقتصادي السريع في فترة ما بعد الحرب أدى إلى انخفاض عدد السكان العاملين بالزراعة، وتم استبدال النفط بالفحم، مما أدى إلى إهمال العديد من مناطق ساتوياما. فلما استشعرت وصول هذا الأمر إلى مرحلة الأزمة، اقترحت أن نولي اهتمامنا إلى منطقة ساتوياما”.

يوضح تاكيؤتشي أن مبادرة ساتوياما حظيت بدعم العديد من البلدان، لكنها لقيت أيضًا معارضة شرسة من الدول الغربية، والسبب في رأيه يكمن في اختلاف وجهات النظر حول كيفية التعامل مع الطبيعة. ففي الغرب، كان النهج التقليدي للحفاظ على الطبيعة هو من خلال حمايتها من أي تدخل بشري.

”في الماضي، لم يكن المزارعون اليابانيون ينظرون إلى مقدار ما سيجنونه من الطبيعة بقدر ما كانوا يعتبرون أنفسهم محظوظين بما تنعمه عليهم الطبيعة، وبالتالي كان أكثر ما يهمهم هو عدم الإضرار بالموارد فاستفادوا إلى أقصى حد من قدرة الطبيعة على التجدد، وكانوا على قدر كافٍ من الحكمة بحيث قرروا التعايش مع الطبيعة بدلاً من محاولة السيطرة عليها“. وكما يشير تاكيؤتشي، فقد دعم المشاركون من آسيا وإفريقيا هذا المفهوم، وبعد تخطي العديد من العقبات، تكللت المجهودات بالنجاح من خلال إطلاق الشراكة الدولية لمبادرة ساتوياما. بالإضافة إلى ذلك، وافق مؤتمر التنوع البيولوجي على تحديد هدف طويل الأجل لعام 2050 يتمثل في تحقيق عالم منسجم مع الطبيعة.

”إن الفيصل في هذه العملية هو الكيفية التي ننظر بها إلى العلاقة بين البشر والطبيعة. تتبنى البلدان أساليب مختلفة في سياساتها البيئية اعتمادًا على كيفية رؤيتها للطبيعة. ففي حالة اليابان، ضرب زلزال وتسونامي توهوكو الكبير شرق اليابان عام 2011 أي في العام التالي لمؤتمر COP10، مما جعلني أغير وجهة نظري عن الطبيعة بشكل جذري، حيث أدركت أنه بينما يجب أن نعمل على حماية الطبيعة، يجب علينا أيضًا أن ننظر إليها برهبة وأن نحتاط من تقلباتها“.

دور سلبي للعولمة في جائحة كورونا

استكمالاً لمجهوداته، يعمل تاكيؤتشي حالياً على تطوير مفهوم الدورة الإقليمية والمجال البيئي كاستراتيجية بيئية تجمع بين مقترحاته السابقة المتعلقة بالمجالات الإقليمية للاستدامة الدائرية والتعايش مع الطبيعة، بالإضافة إلى تعزيز التنمية الإقليمية المستدامة من خلال التحسين المتكامل للبيئة والمجتمع والاقتصاد. وهذا المفهوم يقود الإنتاج المحلي واستهلاك الطاقة المستدامة في المجتمعات الريفية، فضلاً عن كونه إجراءً مضاداً للاحترار العالمي من شأنه أن يوفر عدة فرص للعمل. إن تشجيع السياحة البيئية مع حماية البيئة الطبيعية في ساتوياما يمكن أن يفيد أيضًا الناس في المدن المجاورة.

وفي هذا السياق، يستشهد تاكيؤتشي بمدينة شيموكاوا في محافظة هوكايدو، حيث تماثل مساحة هذه المدينة وحدها مساحة أحياء طوكيو الثلاثة والعشرين، لكن عدد سكانها لا يتعدى 3200 نسمة فقط. ويجري حالياً العمل على تطوير الاعتماد على الذات في المجتمع من خلال، على سبيل المثال لا الحصر، إقامة صناعة حرجية متكاملة تستخدم الغابات التي تغطي 90% من أراضي البلدية، والاكتفاء الذاتي من الطاقة باستخدام الكتلة الحيوية الخشبية، بالإضافة إلى تجديد المستوطنات للتعامل مع الشيخوخة المفرطة التي يعاني منها السكان المحليون.

”إن الجمع بين تعزيز صناعة الغابات واستخدام الكتلة الحيوية الخشبية يحقق فوائد مشتركة ويرتبط بتنشيط المنطقة. أيضًا، استعدادًا لمجتمع الشيخوخة، أنشأت المدينة مساكن جماعية لكبار السن يتم فيها استخدام الطاقة المستمدة من الكتلة الحيوية الخشبية، وبالتالي فهي تعد حلاً مزدوجاً لاثنتين من أهم المشكلات، شيخوخة المجتمع وإزالة الكربون“.

منذ اعتماد الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة في عام 2015، تم تطوير العديد من المبادرات في اليابان وأماكن أخرى من أجل تحقيق تلك الأهداف، ولكن يمكننا اعتبار مفهوم المجال الدائري والبيئي ضمن ”أهداف التنمية المستدامة المحلية“.

في الآونة الأخيرة، ظهرت أسئلة متعلقة بأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي من بينها القضاء على الفقر، وتوفير تعليم عالي الجودة للجميع، والحفاظ على الموارد البحرية. ولو كان قد تم تحقيق هدف واحد فقط من هذه الأهداف، لشعر الكثير من الناس بأن هذا كافٍ. لذلك فهناك بعض الآراء التي ترى أن أهداف التنمية المستدامة تسويفية وتفتقر إلى منظور متكامل. عندما ننظر إلى ما هو أبعد من أهداف التنمية المستدامة، نجد أن علينا تبنّى وجهة نظر متعددة تهدف إلى تجديد شباب المجتمع بالتوازي مع الحفاظ على البيئة”.

وفقًا لتاكيؤتشي، لا ينبغي أن ننظر إلى جائحة كورونا على أنها كارثة، بل هي فرصة لإعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة بينما نسعى جاهدين لإزالة الكربون.

”إن قرب المجتمع البشري من العالم الطبيعي يزيد من مخاطر انتقال الأمراض بين الحيوانات والبشر. وبطريقة أو بأخرى، فقد أدى تدمير البيئة إلى تفشي الوباء وساعدت العولمة على انتشاره بسرعة في جميع أنحاء العالم. نحن نسعى إلى تطوير مناطق اجتماعية واقتصادية معتمدة على ذاتها مع حماية بيئتنا الطبيعية والاستفادة منها، لكنني أعتقد أن هدفنا يجب أن يكون خلق نموذج اجتماعي يمكننا من التواصل مع العالم من خلال شبكات المعلومات والتفاعل البشري“.

(كاواموتو سيا)
(كاواموتو سيا)

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. تم إجراء المقابلة وكتابة النص بواسطة كوندو هيساشي من Nippon.com، وتم التقاط جميع الصور بواسطة كاواموتو سيا. صورة العنوان من حديقة هيبيا، طوكيو)

الزراعة المجتمع الياباني التكنولوجيا