”تقاليد مذهلة“ مواكبة للحياة العصرية

حكمة الماضي في الوقت الحاضر

ثقافة

ياماغوتشي أكيرا فنان ياباني يقوم بتصوير الفن المعاصر مستعينا بالطرق التقليدية لفن التصوير الياباني. وحظت لوحاته بإعجاب العالم نظرا لحيويتها وتصويرها للحياة اليومية. وفي هذه المقالة يتناول باحث الفن الياباني من فرنسا شرح أسرار هذه الأعمال الفنية

ياماغوتشي أكيرا YAMAGUCHI Akira

فنان. ولد بطوكيو عام ١٩٦٩. ترعرع بمدينة كيريو في محافظة غونما. حصل على درجة البكالوريوس والماجستير في الرسم الزيتي بجامعة طوكيو الوطنية للفنون الجميلة والموسيقى. ويتميز ياماغوتشي بأسلوب فني حر تمتزج فيه العناصر عبر الزمان والمكان ويرفق ذلك بتصوير الناس والأبنية بتقنيات تقليدية شبيهة بـ (ياماتوـإي وأوكييوـأي). تم نشر بعض أعماله المختارة في كتاب Yamaguchi Akira daigamen sakuhinshū (ياماغوتشي أكيرا الصورة الكبيرة).

روبونجي هيلز/ ٢٠٠٢/ بالقلم، ألوان مائية على الورق/٤٠×٦٣ سم/ تصوير: كويكو كيزو/ مجموعة موري الفنية/ © ياماغوتشي أكيرا، مقدمة من معرض ميزوما الفني.

 

عالم خيالي فريد من نوعه يتجاوز الزمان والمكان

كوياما بريجت: كان تأثري كبيراً عندما شاهدت أعمال ياماغوتشي لأول مرة. فقد كان منه عمل يصور حي روبونجي من أعلى. تظهر بها الأبراج السكنية وناطحات السحاب، كما تصور المباني القديمة ذات النسق الياباني إلى جانب ناطحات السحاب الحديثة في تناسق طبيعي عجيب. وبنَظرَةٍ أدق نجد السكان، والموظفين وهم يمشون ورجل خرج ليسير مع كلبه وغير ذلك من التفاصيل. كما تتضمن ايضاً مناظر لأُناس مرتدين ملابساً من عصر إيدو وهم يمسحون نوافذ ناطحات السحاب، وبضعة أشخاص من فرسان الساموراي يتعاركون في أحد أركان المدينة. ولعل النظرة الأولى تشعرك أنك تنظر إلى إحدى لوحات اليامتو إيه(*١) التقليدية، تختلط بها رسومات ذات طابع خيالي على خلفية حي روبونجي الحديث في عملٍ تجاوز حواجز الزمان والمكان بشكل خيالي. ففي نفس الوقت الذي تشعر فيه بقوة بعمق الفن الياباني التقليدي، فسوف تترك فيك اللوحة إحساسا باليابان المعاصرة.

ياماغوتشي أكيرا: يظن الكثير من الناس أنني كنت رساماً للوحات اليابانية في البداية، لكن في الحقيقة فأن دراستي كانت للفن الأجنبي. كذلك لوحاتي حيث لا استخدم فيها خامات التلوين المستخدمة في اللوحات اليابانية التقليدية ولكني أرسمها بألوان مائية، زيتية أو بالأقلام على طريقة اللوحات الغربية. فأنا وإن كنت استعين بطريقة التعبير من فن التصوير الياباني التقليدي، فإني في نهاية المطاف رسام ياباني معاصر منذ بداية إحتكاكي بالتصوير الغربي.

 كوياما: كيف كانت بداية رسمك لمثل تلك اللوحات؟

ياماغوتشي: صراحة، إن وصولي لهذا الأسلوب في الرسم كان بعد فترة طويلة من البحث المتعب. فالفن الياباني ينظر إلى الفن في أمريكا و الدول الأوروبية على أنه فن سبقه بكثير وتكررت محاولات اللحاق بتلك الفنون أكثر من مرة وذلك على مر العصور. وربما تبّين اللوحات الزيتية التي وُجدت في عصر الميجي والبروتريهات التي ظهرت بعد الحرب العالمية  فن المفاهيم والتركيبات والتي ما هيَ إلا أساليب لم تتغير حتى الأن. وفي فترة الدراسة الجامعية كان لديَّ تساؤلات حول هذا الفن وقد عانيت بسبب ذلك. وبتتبع تاريخ الفن الياباني المعاصر، وجدت أنه ليس مجرد تقليد ومحاكاة للفن الغربي وبأنَّ العديد من الرواد في مختلف العصور أبدعوا فنوناً فريدة. ولكن ذهبت جهود هؤلاء الرواد الطموحين هباء، حيث لم يستطيعوا حجز مكانٍ في تاريخ الفن ودفنوا أحياء. لذلك رأيت أن اتباعي لنفس هذا النهج الفني سيؤدي بي لنفس المصير. وأدى هذا الخوف الى عدم قدرتي على الرسم لفترة.

كوياما: وكيف خرجت من هذا الموقف؟

ياماغوتشي: في هذا الوقت، كان لقائي بفن الياماتو إيه، أدهشتني جرأة التخطيط. وحينها شعرت بأني وجدت المخرج من أزمتي، فكرت أن الحل يوجد في الفن الياباني التقليدي الذي سبق دخول الفن الغربي لليابان. بمعنى أني أعتقدت أن الحل في أن أقوم بنفسي مرة أخرى بتحديث الفن الياباني. وإننّي لأعرف جيدا أنه قد يصعب فهم مثل ذلك النزاع للفرنسيين.

الياباني الذي وجد اليابان

المقطع الطولي للجسر المؤدي لدايسي/١٩٩٢/ قلم على الورق/ ٦٥×٥٠ سم كل منهما/© ياماغوتشي أكيرا، مقدمة من معرض ميزوما الفني.

كوياما: هل كان هناك ألفة كبيرة بينك وبين الجابونيزم ؟

ياماغوتشي : إطلاقاً. فبالنسبة لي لم تكن العمارة اليابانية كاتسورا ريكيو (قصر إمبراطوري شهير بكيوتو) وإنما هي المساكن الخشبية العادية. فبالنسبة لي أكثر ما كنت أعرفه عن اليابان هو ما شاهدته في أفلام المخرج كوروساوا أكيرا. وقد تشربت الفن التقليدي الياباني من فنون الإيكيوإيه، البيويو، الإيما، والجيجوكو إيه، والجاسًن زو بشغفٍ حين زرت مدينتيّ كيوتو ونارا في الرحلة العلمية لدراسة الفنون القديمة خلال وجودي بالجامعة. ووقتها اكتشفت جوانباً من الثقافة اليابانية لا يعرفها الأجانب وفكرت في أنها لا بد وأنها ستحظى باهتمامهم.

كوياما : لقد تأثر الفنانون الانطباعيون من الفرنسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بشكل كبير باللوحات اليابانية من فن الإيكيوإيه. ومن المعروف أنّ الفنّان الشهير فان جوخ تأثر كثيرا بما يعرف بالجابونيزم(*٢). ويبدو أن الرسامين الإنطباعيين قد شعروا بإقتراب نهاية فن التصوير مع ظهور تقنية التصوير الفوتوغرافي(*٣). وبعد العديد من المحاولات، اكتشفوا الفن اليابان الذي عبر عن الحقيقة بطريقة المنظور(*٤). وربما أشعر أنك تعبر بطريقة ما عن عناء الإنطباعيين في أعمالك. ما رأيك ؟

ياماغوتشي : هذه مبالغة في التقدير. لقد تناول هؤلاء ما يسمى بفن ما قبل الحداثة أو الجابونيزم وابتدعوا عصراً جديداً. ومما يثير الإعجاب هو إلتفات الفنانيين الغربيين لتلك المساحة الصغيرة من الفن الياباني كما لو كان بلداً صغيراً أثناء إهتمامهم بإمبراطورية الواقعية الكبيرة. ويجب إعطاءهم ما يستحقون من تقدير على تحويلهم مجرى الفن بتلك الطريقة.

رؤى متعددة بعين الطائر

كوياما : لوحة متجر ميتسوكوشي في مقطع عرضي هي من الأعمال التي أحبها. وهي لوحة استخدمت أسلوباً مستوحىً من اللوحة الشهيرة (راكوتشو راكوجاى). وهو أسلوب اُستُخدم للتعبير عن الحياة الشعبية والمناطق الأثرية في كيوتو. وقد تطور هذا الأسلوب إلى فن البيوبو إيه في أواخرعصر مورامتشو، وتوارثته الأجيال حتى عصر ميجي. وحتى لوحة روبونجي التي شاهدتها أول مرة رسمت بنفس هذا الأسلوب. وأعتقد أن مثل هذه الأعمال، هي إلتقاء مع نظرة على عصر ما قبل الحداثة.

المجمع التجاري: نيهون-باشي ميتسوكوشي/ ٢٠٠٤/ بالقلم، ألوان مائية على الورق/٥٩٫٤×٨٤٫١ سم/ مجموعة إسيتان ميتسوكوشي المحدودة/              © ياماغوتشي أكيرا، مقدمة من معرض ميزوما الفني.

ياماغوتشي : بالفعل. فمنذ درست فن التصوير الغربي، لا أدري لماذا لكننّي تعودت على رؤية الأشياء من زاوية المنظور.

ويتم رسم المخطط بتحديد الزاوية التي ينظر منها المتفرج. لكن في لوحة ”الراكوتشو راكوجايزو“، لا يوجد ذلك المنظور. بل ينظر لكل موضوع  بشكل منفصل على غرار خدمة الخرائط بجوجل كما لو كانت المواضيع المختلفة متناثرة في نفس اللوحة. وينطبق نفس الشيء على مقياس الرسم. كما  لو أن عدد من الخرائط ذات المقاييس والأبعاد المختلفة قد تم تجميعها في لوحة واحدة. أمّا الفواصل فقد تم تغطيتها بالسحب وربط بعضها بعضاً لتظهر كلوحة واحدة متكاملة.

كوياما : هذا العمل استخدمت فيه أسلوب ”فوكينوكي ياتاي“ الذي ظهر في منتصف عصر ”هييان“، أليس كذلك؟ ولعله هو أسلوب تختصر فيه السقوف مستعرضاً المنظر العام كما لو كنا نراه من أعلى. وقد رسمت متجر ميتسوكوشي عارضاً الناس المتجهين للمتجر والحركة داخل المتجر. كما لو كان الناس من عصور مختلفة تماماً عن عصر الموموياما والإيدو والعصر الحاضر مجتمعين، يأكلون ويتسوقون معا أمام أعيننا.

ياماغوتشي: هي طريقة للتعبير برسم ثنائي الأبعاد كما لو كان ثلاثي الأبعاد. وهذا بطبيعة الحال لا يتعدى كونه ”إيحاء“. فالأهم من دقة التصوير في الرسم، هو أن تصنع تمثالاً أمام الشخص الذي يراه.

فلنترك الأمر لخيال المشاهد

كوياما: أشعر بأي مآسي للحرب في رسومات الجاسسن زو التي ترسمها. بل أشعر كما لو أنك رسمت نزهة في الخلاء.

معركة عصرية سخيفة/ ١٩٩٩/ زيتي على الخيش/٩٧×٣٢٤ سم/ تصوير: ميازيما كي/ مجموعة تاكاهاشي/ © ياماغوتشي أكيرا، مقدمة من معرض ميزوما الفني.

ياماغوتشي :لا أستطيع أن أعبر عن الحرب بشكل واقعي لأني لم أمر بتلك التجربة. ولذلك بداخلي مقاومة لنقل صورة الحرب بشكل واقعي. بل على العكس أود لو أستطيع رسم ويلات الحروب وتوضيح أن ما رسمته في البداية ليس حقيقياً. فأنا أرغب أن يشعر كل من يشاهد الرسم أن يعرف مدى بشاعة الحرب في الحقيقة.

كوياما : فعلا. فالأفضل من زج صورة ما، أن تترك الأمر لخيال المشاهد.

ياماغوتشي : هذا صحيح. فبعد الإعلان عن لوحة طوكيو بعين الطائر التي رسمت بالحبر في مارس/ آذار ٢٠١١، رآها أحد المشاهدين كما لو كانت مدينة تغرق. فحين رسمتها لم أفكر في كارثة الزلزال الكبير، ولكن هذا السيد عندما شاهد اللوحة ربما كان يفكر في ذلك. وأنا أشعر بالراحة عندما أسمع مثل تلك الأراء وأحس أني إستطعت ولو قليلا أن أعبر عن الجانب الدنيوي. فالمدن تتشكل من تراكم ذكريات الناس من مختلف العصور.

كوياما : من يأتي الناس وإلى أين يذهبون؟ حين أشاهد رسومك دائماً ما أفكر في ذلك. فبالنسبة لشخص فرنسي غير مهتم بالفن الياباني أشعر بذلك. أود فعلا لو أن تعرض لوحاتك في معرض شخصي في متحف جيمه(*٥) للفن، حيث يتجمع محبي الفن ومتذوقيه. وأنا متأكدّة أن مثل هذا المعرض سيكون حدثاً كبيراً.

طوكيو شان شوي/ مناظر طوكيو ٢٠١٢ (التفاصيل)/ ٢٠١٢/ بالحبر الياباني على الخيش/ زوج مكون من أربع لوحات قابلة للطي/ © شركة ناكاسا وشركاؤه/مقدمة من Fondation d’entreprise Hermès/ © ياماغوتشي أكيرا، مقدمة من معرض ميزوما الفني .

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية، ساعد في التحرير: ميجيما أرت جاليري، تصوير: كاواي ساتوشي)

لمشاهدة المزيد من لوحات ياماغوتشي أكيرا إضغط الرابط التالي: عالم ياماغوتشي أكيرا

(*١) ^ الياما تو إيه: هي اللوح التي رسمت لتعبر عن مناظر الحياة في اليابان مجاراة للوحات الكاراإيه التي رسمها على الطريقة الصينية في عصر الهيان. ظهرت لوحات الياماتو إيه هذه التسمية للأسلوب التقليدي منذ عصر الهيان في المقابل للوحات أسلوب الكارا إيه الحديث المستوردة من صو وجن من الصين في عصر الكاماكورا. وإزدهرت لوحات الرينبا والإيكي يو إيه وفقاً لتقاليد الياماتو إيه.

(*٢) ^ الجابونيزم: حركة فنية إنتشرت عن طريق لوح الإيكي يو إيه التي وصلت باريس والمعارض التي أقيمت في فرنسا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأثرت في رسامي مدرسة الإنطباعيين.

(*٣) ^  تقنية التصوير: نجح الفرنسي نيوبوسو (١٧٦٥-١٨٣٣) في عام ١٨٢٦ بإستخدام الكاميرا المعتمة في تصوير أول صورة فوتوغرافية. وتبع ذلك إعجاب كثير من الناس بصور البورتريه غي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مما جعل الكثير من الرسامين يتحولون إلى مصوري فوتوغرافيا.

(*٤) ^  طريقة المنظور: هي طريقة في الرسم تحدد نقطة معينة كمنظور للمشاهد.

(*٥) ^  متحف جيمه: المتحف القومي للفن الشرقي في باريس- فرنسا. يضم أعمالاً فنية من الشرق جمعها رجل الاعمال  جيمه (١٨٣٦-١٩١٨).

الفن أوكييو-إيه