اليابانيون يسترضون الأرواح المنتقمة عبر المهرجانات!

ثقافة

تعشق اليابان ترتيب الأشياء وتحديد ”أعظم ثلاثة“ منها، وهو أمر يمتد بلا شك إلى مهرجاناتها. وفي هذه المقالة، نلقي نظرة على أهم ثلاث فعاليات صيفية في كيوتو وأوساكا وطوكيو وخلفيتها التاريخية باعتبارها وسيلة ابتكرها الناس لتهدئة أرواح غاضبة تسعى للانتقام.

أصول المهرجانات ”ماتسوري“

يعتبر كلا من مهرجان غيون في كيوتو وتينجين في أوساكا وكاندا في طوكيو، أشهر ثلاثة مهرجانات في اليابان. وتقام جميعها في مدن كبيرة، حيث تجتذب مئات الآلاف أو حتى الملايين من المتفرجين الذين تجذبهم العروض المبهرة الأصيلة وأجواء المهرجان الخاصة. ويعود سبب اكتساب هذه المهرجانات ذات التاريخ العريق لسمعتها كفعاليات مميزة إلى احتوائها على مجسمات فخمة وحشود صاخبة تحمل معابد ميكوشي وموسيقى ورقص تقليديين.

يعود تاريخ تلك المهرجانات الثلاثة إلى أصل مشترك، حيث بدأت كوسيلة لاسترضاء الأرواح الانتقامية وهي أرواح الأشخاص الذين تعرضوا للتعنيف أو وافتهم المنية مبكرا ثم عادوا ليطاردوا الأحياء وينتقموا منهم من خلال إلحاق مصائب متعددة بهم. ففي مهرجان تينجين في أوساكا يتم الاحتفال بالباحث والشاعر ورجل الدولة في فترة هييان (794-1185) سوغاوارا نو ميتشيزاني (845-903)، في حين أن مهرجان كاندا في طوكيو يكرم تايرا نو ماساكادو (903-940). تم تأليه هاتين الشخصيتين التاريخيتين لتهدئة أرواحهما الغاضبة. وفي الوقت نفسه، يقدس مهرجان غيون في كيوتو غوزو تينّو، وهو إله في الديانتين البوذية والشنتوية يعيث فسادا في البشرية، تسخر قواه المخيفة لدرء الكوارث والأوبئة.

مهرجان غيون

(يقام من 1 إلى 31يوليو/تموز في هيغاشيياما كو وناكاغيو كو وشيموغيو كو في كيوتو).

عجلات المجسمات مثبتة بحيث تتحرك للأمام والخلف فقط. وعند الحاجة للالتفاف تسحب المجسمات فوق فرشة من الخيزران الرطب (© مكتبة هاغا).
عجلات المجسمات مثبتة بحيث تتحرك للأمام والخلف فقط. وعند الحاجة للالتفاف تسحب المجسمات فوق فرشة من الخيزران الرطب (© مكتبة هاغا).

إن أهم ما يميز مهرجان غيون، الذي يقام طوال شهر يوليو/تموز بأكمله، هو الموكب الفخم لمجسمات ياماهوكو. حيث يجوب ما مجموعه 34 مجسما مزينة بسخاء شوارع كيوتو على أنغام موسيقى غيونباياشي الاحتفالية المنتشرة في كل مكان، في مناسبتين منفصلتين.

من الفعاليات التي لاينبغي تفويتها العرض الذي يجمع 23 هيكلا من مجسمات ياماهوكو قرب تقاطع شيجو كاراسوما في صباح يوم 17 يوليو/تموز. حيث يقف طفل صغير فوق ناغيناتابوكو، وهو المجسم الرئيسي دائما، ليقص شريطا سميكا معلنا بدء الموكب، وسط هتافات وتصفيق الجماهير المحتشدة. ويعد مشهد تسوجي مواشي وهو انزلاق المجسمات التي يزيد ارتفاع بعضها عن 20 مترا ويمكن أن تزن أكثر من 10 أطنان فوق الخيزران الرطب للانعطاف عند التقاطعات، مشهدا مثيرا. وفي 24 يوليو/تموز، تنطلق المجسمات الـــ 11 المتبقية في الشوارع، مع مجسم ”أوفونيهوكو“ في مؤخرة الموكب ويكون على شكل قارب ومزين برايات ذهبية في مقدمته ومكسو بقماش متوهج وزخارف.

لا تسير العربات على الطرق الرئيسية فحسب، وإنما في الشوارع الثانوية الضيقة أيضا التي تصطف على جانبيها مساكن ”كيو-ماتشييا“ التقليدية ذات الطراز المعماري المميز لكيوتو. كما يعرض الكثير من تلك المنازل أعمالا فنية ولوحات قابلة للطي ومقتنيات عائلية ثمينة في واجهاتها خلال شهر المهرجان، ما يجعل المدينة تبدو وكأنها متحف فني واقعي.

فتيات غييشا متدربات ”مايكو“ تنتظرن الموكب (© مكتبة هاغا).
فتيات غيشا متدربات ”مايكو“ تنتظرن الموكب (© مكتبة هاغا).

يعد هذا المهرجان فعالية صيفية مميزة تشتهر بها مدينة كيوتو، ويعود تاريخه إلى أكثر من 11 قرن، حيث بدأ فعليا كمحاولة لجلب السكينة للأرواح الشريرة. بدأ المهرجان في عصر جوغان (859-877)، وهي السنوات التي شهدت فيها اليابان أوبئة وأمراضا وزلزالا ضخما شمال شرقي البلاد، كما شهدت ثوران بركان جبل ”فوجي“ وبراكين أخرى في جميع أنحاء اليابان. وبسبب اعتقاد ساد بين سكان كيوتو في ذلك الوقت مفاده أن مثل هذه الكوارث الطبيعية المتكررة كانت لعنة من أرواح تريد الانتقام، أقاموا احتفالا سمي ”غيون غوريو إي“ لطرد الأوبئة وكبح الكوارث، حيث نصبوا 66 مطردا، يمثلون عدد مقاطعات البلاد في ذلك الوقت، في حديقة القصر الإمبراطوري ”شينسينئين“.

مطارد كينهوكو تنتصب في ”شينسينئين“. ويقال إن هذه الأدوات الطقسية التي تقود مواكب تضم معابد ميكوشي المحمولة، تعود إلى أسلاف ياماهوكو (© مكتبة هاغا).
مطارد كينهوكو تنتصب في ”شينسينئين“. ويقال إن هذه الأدوات الطقسية التي تقود مواكب تضم معابد ميكوشي المحمولة، تعود إلى أسلاف ياماهوكو (© مكتبة هاغا).

يحمل في مراسم ”غيون غوريو إي“ معبد محمول مكرس لغوزو تينّو الإله المقدس في معبد ياساكا (المعروف باسم معبد غيون سابقا)، في رحلة حج تجوب المدينة. إن غوزو تينّو في الأصل هو إله هندي للأوبئة تطور لاحقا إلى كائن توفيقي من خلال الاندماج مع إله الشنتو سوسانو نو ميكوتو وهو إله متوحش وفق الأساطير اليابانية له أتباع متحمسون. ولاحقا بدأت الجماهير التي كانت تصلي من أجل مجيء هذا الإله الذي يُعرف عنه درء الأمراض بإقامة مهرجانات صيفية في جميع أنحاء البلاد.

مهرجان تينجين

(يقام في 24-25 من يوليو/تموز في كيتا كو في أوساكا).

يعتبر مويوشي دايكو هو الأبرز في المهرجان (© مكتبة هاغا).
يعتبر مويوشي دايكو هو الأبرز في المهرجان (© مكتبة هاغا).

تينجين ساما، ويُعرف أيضا باسم سوغاوارا نو ميتشيزاني وهو شخصية بارزة في فترة هييان، يكرس لها معابد تينمانغو وتينمانشا وسوغاوارا جينجا، والتي يوجد منها أكثر من 12000 معبد في جميع أنحاء اليابان. يعد معبد تينمانغو في أوساكا أحد أقدم المعابد، حيث يعود تاريخه إلى أكثر من 1000 عام. ويقام مهرجان تينجين كل عام في 25 يوليو/تموز، وهو اليوم التالي لذكرى وفاة ميتشيزاني في 24 يوليو/تموز.

يتضمن المهرجان ثلاث طقوس رئيسية. ففي صباح يوم 24 يوليو، تقام مراسم إطلاق الرمح العائم، حيث يطلق طفل على متن قارب رمحا في نهر دوجيما. ويشير مكان سقوط الرمح على الشاطئ إلى الموقع الذي سيتم فيه الاستعداد لاستقبال الإله.

وفي اليوم التالي، تحمل عربة إمبراطورية يعلوها طائر الفينيق تحتوي روح ميتشيزاني عبر الشوارع في موكب أرضي يزور جميع الأحياء السكنية. وأبرز ما يميز المهرجان هو موكب النهر في ذلك المساء، حيث يخرج قارب يحمل الروح المقدسة برفقة أسطول يضم ما يقارب من 100 قارب، مع تدشين عرض مبهر للألعاب النارية في اختتام هذه الفعالية الصيفية الكبيرة.

قوارب ذات إضاءة متألقة بالتزامن مع عرض للألعاب النارية على طول النهر (© مكتبة هاغا).
قوارب ذات إضاءة متألقة بالتزامن مع عرض للألعاب النارية على طول النهر (© مكتبة هاغا).

وتعتبر الرقصات الاحتفالية المقدمة للإله ميتشيزاني رائعة أيضا. كما يتميز جزء مويوشي دايكو من المهرجان بارتداء أتباع لهذا الإله قبعات حمراء طويلة ثم يقومون بقرع الطبول فوق المجسمات التي تهتز بعنف. وفي رقصة تنين ”ريو أودوري“ الميمونة، يتقلب الراقصون من جانب لآخر على أنغام موسيقى المهرجان في محاكاة لصعود تنين إلى السماء.

تضفي رقصة ”ريو أودوري“ لمسة نابضة بالحياة (© مكتبة هاغا).
تضفي رقصة ”ريو أودوري“ لمسة نابضة بالحياة (© مكتبة هاغا).

ظهر مهرجان تينجين المفعم بالحيوية في الأصل من أجل تهدئة روح سوغاوارا نو ميتشيزاني الانتقامية. وكان ميتشيزاني الذي ينحدر من عائلة نبيلة قد ارتقى بسرعة في الرتب في البلاط الإمبراطوري وتم تعيينه في النهاية وزير اليمين إحدى أعلى ثلاث رتب في البلاط الإمبراطوري. ولكنه أثار غيرة فوجيوارا نو توكيهيرا (871–909) وزير اليسار فتآمر عليه وأرسله بعيدا إلى دازايفو في كيوشو البعيدة. وتوفي ميتشيزاني بعد إصابته بخيبة أمل بعد ذلك بعامين في عام 901.

تم تشييد معبد دازايفو تينمانغو في دازايفو بمحافظة فوكوؤكا في مكان دفن ميتشيزاني (© مكتبة هاغا).
تم تشييد معبد دازايفو تينمانغو في دازايفو بمحافظة فوكوؤكا في مكان دفن ميتشيزاني (© مكتبة هاغا).

وتوالت الكوارث بعد ذلك واحدة تلو الأخرى. فقد توفي توكيهيرا بسبب المرض قبل أن يبلغ الأربعين من عمره. وضرب البرق القصر الإمبراطوري في كيوتو بعد بضع سنوات، ما أسفر عن مقتل سبعة أشخاص وتوفي الإمبراطور دايغو (885-930) بعد فترة وجيزة، بسبب شعوره بالحزن الشديد لما حدث. وتكررت حالات الجفاف والأوبئة، وبدأ الناس يعتقدون أن هذه الكوارث كانت بسبب لعنة روح ميتشيزاني التي تريد الانتقام بسبب موته المفاجئ.

ومن أجل تهدئة روح ميتشيزاني الغاضبة، أمر البلاط الإمبراطوري ببناء ”كيتانو تينمانغو“ في كيوتو. كما أعيد بناء ”أوساكا تينمانغو“ في نفس الوقت و هو مكان توقف ميتشيزاني أثناء رحلته إلى المنفى في دازايفو. ومع مرور السنين، أصبح يُنظر إلى ميتشيزاني الذي كان مصدر رعب باعتباره روحا انتقامية، تدريجيا على أنه إله العلم والفنون والنجاح في الحياة وكحامٍ من الكوارث. وفي العصر الحديث، أصبح الطلاب الذين يستعدون لامتحانات الالتحاق بالمؤسسات التعليمية يتدفقون إلى معابد تينجين في جميع أنحاء البلاد للصلاة من أجل النجاح.

مهرجان كاندا

(يقام في منتصف شهر مايو/أيار في السنوات الفردية في تشييودا وتشوؤ في طوكيو).

العربات الإمبراطورية لتايرا نو ماساكادو وآلهة أخرى جاهزة لمغادرة المعبد. أفضل موقع لمشاهدة الموكب هو مكان خروجه من المعبد متوجها إلى الشارع (© مكتبة هاغا).
العربات الإمبراطورية لتايرا نو ماساكادو وآلهة أخرى جاهزة لمغادرة المعبد. أفضل موقع لمشاهدة الموكب هو مكان خروجه من المعبد متوجها إلى الشارع (© مكتبة هاغا).

يقام مهرجان كاندا لمعبد ”كاندا ميوجين“ كل عامين في السنوات الفردية، بالتناوب مع مهرجان سانّو في معبد هيي في تشييودا. كما كانت مواكب المهرجانين تمر خلال فترة إيدو (1603-1868) عبر قلعة إيدو ليشهد الشوغون الحدث بنفسه.

يسمى اليوم الأول من مهرجان كاندا بـ”شينكوساي“ وهو فعالية تجوب فيها الآلهة الثلاث التي يقام المهرجان لأجلهم في عربة يعلوها طائر الفينيق. كما يتضمن عوامات ضخمة على شكل سمكة سلور عملاقة وشبح يوكاي خارق اسمه ”شوتين دوجي“ وأشكال أخرى، ما يخلق جوا مفعما بالحيوية. يتوزع أتباع هذه الآلهة على مساحة واسعة جدا في موكب يصل طوله إلى 20 كيلومترا.

ويشهد اليوم الثاني للمهرجان نقل حوالي 200 ميكوشي كبيرة وصغيرة من 108 أحياء إلى معبد ”كاندا ميوجين“، ما يعيد إحياء الأجواء المبهجة للمهرجان في زمن إيدو. وأحد أبرز المشاهد المشهورة بشكل خاص هو ميكوشي من ”كاندا سوداتشو“ والذي تحمله النساء فقط، ويكنّ مفعمين بالحيوية والسحر بالرغم من تحملهن لوزنه الثقيل. ويختتم المهرجان بإدخال ”سينغان ميكوشي“ وهو أكبر ميكوشي على الإطلاق، من معبد إيدو إلى حرم المعبد.

يُقال إن ”سوداتشو ميكوشي“ هو أول ميكوشي تحمله النساء فقط (© مكتبة هاغا).
يُقال إن ”سوداتشو ميكوشي“ هو أول ميكوشي تحمله النساء فقط (© مكتبة هاغا).

هناك أسطورة مرتبطة بتايرا نو ماساكادو، أحد الآلهة الثلاث المقدسة في معبد ”كاندا ميوجين“. تذكر الأسطورة أن ماساكادو كان أحد أفراد عائلة قوية من منطقة كانتو خلال فترة هييان، ونصب نفسه ”إمبراطور جديد“ وحاول تحقيق استقلال المنطقة. وبالرغم من وصفه من قبل البلاط الإمبراطوري في كيوتو بأنه متمرد، إلا أنه كان يتمتع بشعبية كبيرة بين السكان المحليين بسبب طرده لمسؤولين إمبراطوريين فاسدين كانوا قد فرضوا ضرائب باهظة على السكان. لكن تمرده لم يدم طويلا وسقط بسهم في هجوم شنته قوة مرسلة من العاصمة جاءت لتأديبه ما أدى إلى مفارقته الحياة.

ترك رأس ماساكادو على ضفة النهر في كيوتو، ولكن يقال أنه طار في الجو إلى كانتو بحثا عن جثته. وهناك الكثير من النظريات حول مكان استقرار رأسه، وأشهر مكان هو منطقة أوتيماتشي التجارية الرئيسية في طوكيو، حيث شيد نصب تذكاري له هناك في عام 1927. واعتقد الناس أن الأوبئة التي حدثت في المنطقة في القرن الرابع عشر كانت بسبب لعنة روح ماساكادو، لذا تم تأليهه وتقديسه في معبد ”كاندا ميوجين“ لتهدئة روحه.

في الواقع، لا تزال لعنة ماساكادو بمثابة أسطورة حضرية. فعند إعادة الإعمار بعد زلزال كانتو الكبير عام 1923، جرت محاولة تغيير مكان الرأس بهدم الأرض من أجل إعدادها لبناء مكتب مؤقت لوزارة المالية. توفي أربعة عشر شخصا شاركوا في المشروع في أعمار صغيرة. وبالمثل، وقع حادث مميت عندما حاولت قوات الحلفاء التي كانت تحتل اليابان البناء في ذلك الموقع بعد الحرب العالمية الثانية. ويتضمن طريق الموكب في مهرجان كاندا في الوقت الحالي التوقف عند النصب التذكاري لماساكادو، ليتلو كاهن شنتو صلوات.

إن الممارسات الدينية في اليابان غريبة حيث إنها تؤله أرواحا تسعى للانتقام وآلهة متوحشة. تطورت المهرجانات ”الثلاثة الكبرى“ الموصوفة في هذه المقالة تدريجيا لتصبح عروضا في الوقت الحالي، لكن أصولها تعود إلى ماضٍ مظلم اتسم بكوارث متكررة، وابتكرت كوسيلة لتهدئة الأرواح الغاضبة. إن إدراك تلك الحقيقة يضيف أبعادا أخرى لهذه الفعاليات الصيفية الملونة.

المراسم التي تتم عند النصب التذكاري لتايرا نو ماساكادو (© مكتبة هاغا).
المراسم التي تتم عند النصب التذكاري لتايرا نو ماساكادو (© مكتبة هاغا).

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. التواريخ المذكورة هي تلك التي تقام فيها المهرجانات عادة. صورة العنوان: قارعو طبول مويوشي دايكو في مهرجان تينجين في أوساكا. © مكتبة هاغا)

الثقافة الثقافة الشعبية الثقافة الفرعية التاريخ الياباني