”منازل لهيروشيما“: إرث ناشط السلام الأمريكي فلويد شمو

مجتمع

تأثر الأمريكي فلويد شمو بمحنة سكان هيروشيما وناغاساكي وأطلق في عام 1948 مشروعا لبناء منازل لتحل محل تلك التي دمرت في القصف الذري للمدينتين. وتمكن من بناء منازل ومرافق مجتمعية وشارك في أعمال إغاثة أخرى، معتمدا في ذلك على التبرعات والمتطوعين. نستعرض في هذه المقالة إرث شمو وسعيه على مدار حياته لتحقيق السلام.

إعادة تسليط الضوء على ناشط مجهول

من المؤكد أن منطقة إيبا في هيروشيما – وهي جزء من حي ناكا الصاخب في المدينة – مألوفة لعشاق فيلم الرسوم المتحركة الفائز بجوائز بعنوان ’’في هذا الركن من العالم‘‘ لعام 2016 باعتباره موطنا لبطلة الفيلم سوزو. وقد أثار هذا العمل الذي تدور أحداثه في اليابان إبان الحرب، الاهتمام بتاريخ المنطقة.

نجت منطقة إيبا من الكثير من الدمار الذي ألحقه القصف الذري بمناطق أخرى من هيروشيما، حيث إنها تبعد حوالي 4 كيلومترات عن مكان سقوط القنبلة إلى الجنوب الغربي. ولذلك تدفق عليها سكان المدينة الجرحى والمشردين الفارين من مركز هيروشيما المدمر. وفي وقتنا الحاضر، ينتصب مبنى خشبي متواضع في ركن هادئ من الحي ليذكر بالجهود التي بذلت لتخفيف معاناة ضحايا القصف.

شُيّد المبنى في عام 1951 وكان الأخير من بين عدد من المساكن والمباني الأخرى المشيدة في إطار مشروع إسكاني لسكان المدينة المدمرة. أطلق المشروع – والذي أصبح يعرف باسم ’’منازل لهيروشيما‘‘ – ناشط السلام الأمريكي فلويد شمو (1895-2001)، وشارك فيه متطوعون شباب من الولايات المتحدة واليابان.

استُخدم المبنى الصغير في البداية كمركز مجتمعي وكان يُطلق عليه ’’قاعة شمو‘‘. ومنذ إعادة تسميته إلى ’’بيت شمو‘‘، أُلحق بمتحف هيروشيما التذكاري للسلام، وهو مكرس للحفاظ على تاريخ أنشطة المساعدات الدولية في هيروشيما بعد القصف الذري.

المظهر الخارجي لمنزل شمو في منطقة إيبا، بالإضافة إلى المساحة الداخلية المخصصة للعرض (© ديون هيروكو)
المظهر الخارجي لمنزل شمو في منطقة إيبا، بالإضافة إلى المساحة الداخلية المخصصة للعرض (© ديون هيروكو)

صورة لمنطقة إيبا من جبل ساراياما (بإذن من توميكو شمو/ شومو ني مانابو كاي)
صورة لمنطقة إيبا من جبل ساراياما (بإذن من توميكو شمو/ شومو ني مانابو كاي)

ينحدر شمو من سياتل بواشنطن، وقد تمكن أثناء المشروع من بناء علاقات عميقة مع هيروشيما وسكانها بمن فيهم هاماي شينزو (1905-1968) العمدة أثناء تنفيذ مشروع الإسكان. وفي عام 1983 جعلت هيروشيما شمو مواطنا فخريا تعبيرا عن امتنانها له. ولكن على الرغم من هذا التكريم، إلا أن مساهماته في المدينة تلاشت حتما من أذهان عامة الناس. وحاليا تعمل مجموعة صغيرة من المتطوعين على عكس هذا الاتجاه من خلال تسليط الضوء على إرث شمو.

ساداكو وألف طائر كركي ورقي

بدأ الإلهام ببذل الجهود مع تمثال برونزي وضع في حديقة في سياتل لإحياء ذكرى ساساكي ساداكو – ناجية من القصف الذري (هيباكوشا) – سردت قصتها التي تفطر القلوب في كتاب للأطفال بعنوان ’’ساداكو وألف طائر كركي ورقي‘‘. بدأ شمو – كويكر (ينتمي لجمعية الأصدقاء الدينية البروتستنتية) وداعية وناشط سلام – في سنواته الأخيرة في تنظيف قطعة أرض بالقرب من جامعة واشنطن، حيث كان يعمل بروفسورا مختصا في بيولوجيا الغابات، وذلك من أجل تشييد حديقة سلام. وحصل في عام 1988 على جائزة تانيموتو كييوشي للسلام، التي سميت على اسم وزير ميثودي ياباني كرس نفسه لإغاثة الناجين من القنبلة الذرية ومن أجل حركة السلام. وقد استخدم شمو الأموال التي حصل عليها لإكمال المشروع. كان عمره 94 عاما عندما افتتحت الحديقة في 6 أغسطس/آب عام 1990 في الذكرى الخامسة والأربعين لقصف هيروشيما.

كان تمثال ساداكو – من صنع الفنان داريل سميث – قطعة أساسية في المنتزه. ولكن في عام 2003، بعد عامين من وفاة شمو عن عمر يناهز 105 عاما، شوّه مخربون بغباء التمثال ونزعوا ذراعه الممدودة وأتلفوها. عندما سمعت الموسيقية والناشطة الأمريكية من أصل ياباني ميتشيكو بومبيان من سياتل عن الحادث، بدأت في جمع تبرعات لترميم التمثال. ومع وصول نبأ حملة جمع التبرعات، قدمت نيشيمورا هيروكو المتطوعة في متحف هيروشيما التذكاري للسلام مساهمة مالية وحضرت لاحقا حفلة موسيقية تذكارية أحيتها بومبيان وآخرون في هيروشيما.

نيشيمورا هيروكو (© ديون هيروكو).
نيشيمورا هيروكو (© ديون هيروكو).

تركت تلك الجهود أثرا في نفس نيشيمورا، ما دفعها للبدء في جمع المعلومات عن شمو، لكنها تقول إنه من المدهش أنه لم يكن هناك الكثير مما يمكن العثور عليه. تروي قائلة: ’’لم يبق شيء تقريبا في هيروشيما يتعلق بعمله. لقد كرّس نفسه للسلام، حيث عمل بجهد وبلا توقف في مشاريع مختلفة حول العالم، لكن من الواضح أنه لم يولِ أهمية كبيرة لتسجيل أنشطته‘‘. لم تتوانَ نيشيمورا عن توحيد جهودها مع زميلتها المتطوعة في المتحف إيمادا يوكو، حيث شكلتا معا مجموعة تضم مواطنين تكرس أنشطتها للحفاظ على تراث شمو ومشروع منازل لهيروشيما.

رحلة إلى هيروشيما

تأثر شمو بمعاناة الناجين من القنبلة الذرية، وتوجه إلى هيروشيما في عام 1948 في إطار مشروع نظمته الوكالات المرخصة لإغاثة آسيا، وهي مجموعة واسعة من مجموعات المساعدة المسيحية وغيرها من المنظمات التي تشكلت في عام 1946. وبهدف تطوير فكرته المتمثلة في مشروع إسكان لسكان هيروشيما النازحين، تحدث مع شركاء محتملين وجمع تبرعات قدرها 4300 دولار. وفي عام 1949، عاد إلى المدينة مع ثلاثة من زملائه – إيمري أندروز وديزي تيبس وروث جينكينز – لتنفيذ خططه. استأجرت المجموعة نجارين وجمعت متطوعين محليين ومن طوكيو، حيث شيدوا 4 منازل في منطقة مينامي ماتشي بالمدينة.

وعلى مدى السنوات الخمس التالية، ساعد شمو في بناء مساكن ومراكز مجتمعية للناجين من القنبلة الذرية في 4 أحياء في هيروشيما. استمرت هذه المباني حتى سبعينات القرن الماضي، ولكن تدهورت حالتها مع الوقت، وهدمت تدريجيا لإفساح المجال لتشييد مباني جديدة. فمن أصل المباني الـ 21 المشيدة ضمن مشروع شمو الخاص بمنازل هيروشيما، لا يزال المركز المجتمعي في إيبا هو الوحيد المتبقي.

صورة فلويد شمو (بإذن من مايكاوا هيروشي/شومو ني مانابو كاي).
صورة فلويد شمو (بإذن من مايكاوا هيروشي/شومو ني مانابو كاي).

إحدى القصص القليلة عن الفترة التي قضاها شمو في اليابان مدونة في كتيب له تُرجم إلى اليابانية بعنوان ’’انطباع عن اليابان‘‘ ونشره مركز هيروشيما للسلام في عام 1952. يوضح شمو في الكتيب أنشطته جنبا إلى جنب مع أنشطة زملائه الأمريكيين والمتطوعين الشباب اليابانيين الذين شاركوا في المشروع. يلفت المترجم أوهارا ميهاتشي في المقدمة الانتباه إلى دوافع شمو لإجراء أعمال إغاثة في هيروشيما، موضحا أنه أصيب بالصدمة والأذى الشديد من القصف الذري وشعر أن عليه تعويض المعاناة التي سببها القصف. يقتبس أوهارا رسالة كتبها شمو إلى جينكينز التي كان يسميها ’’بينكي‘‘ قال فيها إنه يريد إظهار إخلاصه عن طريق تشييد منازل للضحايا ’’لإظهار مشاعر الكثير من الأمريكيين الذين يأسفون على معاناة الشعب الياباني البريء جراء القصف‘‘.

ديزي تيبس (يسار) وإيمري أندروز يجران إمدادات (بإذن من كيتازاوا سوميكو/شومو ني مانابو كاي)
ديزي تيبس (يسار) وإيمري أندروز يجران إمدادات (بإذن من كيتازاوا سوميكو/شومو ني مانابو كاي)

بدأت نيشيمورا في عام 2004 تواصلها مع أعضاء سابقين في مشروع منازل لهيروشيما، مستخدمة الكتيب ووثائق أخرى كمرجع لها. تحدثت مع العديد من المشاركين، واستخدمت قصصهم لرسم صورة أوسع للمشهد تدريجيا ولتسجيل التطورات بعد عام 1950، عندما ألّف شمو الكتيب.

بدأت بالتزامن تقريبا جهود أخرى للحفاظ على إرث شمو. ففي عام 2004 أيضا، كشف عمدة هيروشيما عن خطط لنقل مركز إيبا المجتمعي إلى موقع جديد، حيث كان يقف في طريق مشروع توسيع الطريق، الأمر الذي حفظه من الهدم. وبعد فترة وجيزة، أطلق متحف هيروشيما التذكاري للسلام مشروعا لدراسة الكنز الدفين من الكتابات والمواد الأخرى التي كتبها شمو وزملاؤه في مكتبات جامعة واشنطن. كشف هذا الجهد الأخير عن حياة مكرسة لمساعدة الآخرين.

رفض شمو الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى لأن ضميره لم يطاوعه، واختار بدلا من ذلك مساعدة الجنود الجرحى ومساعدة لاجئي الحرب في أوروبا. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، احتج بقوة على اعتقال مواطنين أمريكيين من أصول يابانية ودعم أعضاء مجتمع نيكّيي في كاليفورنيا. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وجه انتباهه إلى مساعدة سكان هيروشيما وناغاساكي وبناء منازل لضحايا القنبلة الذرية في كلتا المدينتين. وفي عام 1953، وصلته أنباء أزمة اللاجئين في كوريا وسافر إلى شبه الجزيرة للقيام بأعمال إغاثة، بما في ذلك العمل مع السكان لبناء حوالي 100 منزل. كما توجه إلى مصر بعد أزمة السويس في عام 1956 وذلك بهدف مساعدة اللاجئين الذين نزحوا بسبب الصراع.

يقول أوتشيبا هيرونوبو المسؤول في متحف هيروشيما التذكاري للسلام إن عمل شمو في هيروشيما يعكس نهجا عمليا للعمل بفاعلية: ’’تدفقت المساعدات بعد الحرب إلى الناجين من القصف الذري من جميع أنحاء العالم، لكن شمو تجاوز مسألة توفير المال والإمدادات. لقد اضطر للسفر إلى هيروشيما والعيش والعمل جنبا إلى جنب مع اليابانيين لمساعدة من هم بحاجة لها‘‘.

إرث صداقة

تأثرت نيشيمورا بالتبعات بعيدة المدى التي خلفها مشروع منازل لهيروشيما على المشاركين فيه. وتقول إنه من خلال التجربة قام المتطوعون الأمريكيون واليابانيون ’’بتكوين روابط عميقة ودائمة‘‘. وتستشهد برواية أحد المتطوعين الذي كتب ’’أدركت الحماقة المطلقة للحرب من قدرتنا على الانتقال من كوننا أعداء لدودين إلى رفقاء موثوقين في فترة قصيرة بلغت 4 سنوات‘‘.

متطوعون يابانيون وأمريكيون يستخدمون إزميل نحت (تبرع بها جان والكينشو/ بإذن من متحف هيروشيما التذكاري للسلام).
متطوعون يابانيون وأمريكيون يستخدمون إزميل نحت (تبرع بها جان والكينشو/ بإذن من متحف هيروشيما التذكاري للسلام).

 شمو (يسار) وعمدة هيروشيما هاماي شينزو في مراسم افتتاح فانوس حجري تذكاري في مينامي ماتشي في 1 أكتوبر/تشرين الأول عام 1949. كُتب على الفانوس الحجري رسالة باللغة الإنجليزية تقول ’’قد يكون هناك سلام‘‘ وذلك تكريما لمشروع منازل لهيروشيما (بإذن من توميكو شمو/ شومو ني مانابو كاي).
شمو (يسار) وعمدة هيروشيما هاماي شينزو في مراسم افتتاح فانوس حجري تذكاري في مينامي ماتشي في 1 أكتوبر/تشرين الأول عام 1949. كُتب على الفانوس الحجري رسالة باللغة الإنجليزية تقول ’’قد يكون هناك سلام‘‘ وذلك تكريما لمشروع منازل لهيروشيما (بإذن من توميكو شمو/ شومو ني مانابو كاي).

يوجد الفانوس بالقرب من مشروع الإسكان البلدي هييوا جوتاكو الذي تم بناؤه في نفس الوقت مع منازل هيروشيما (© ديون هيروكو).
يوجد الفانوس بالقرب من مشروع الإسكان البلدي هييوا جوتاكو الذي تم بناؤه في نفس الوقت مع منازل هيروشيما (© ديون هيروكو).

من بين المواد الأثرية التي اكتشفتها نيشيمورا وآخرون في بحثهم صورة للافتة تعلن عن مشروع معسكر عمل من أجل ’’منازل لهيروشيما‘‘. تُظهر الصورة شمو وزميله يعلقون اللافتة في أحد مواقع البناء، مكتوب عليها باللغتين اليابانية والإنجليزية شعار المشروع:

  1. لبناء تفهم
  2. عبر بناء منازل
  3. قد يكون هناك سلام

ووفقا للروايات، جذبت مواقع البناء السكان المحليين ولا سيما الأطفال، الذين أثار اهتمامهم رؤية شباب أجانب ويابانيين يعملون جنبا إلى جنب.

تنوّه نيشيمورا إلى أن الحرب في أوكرانيا اليوم قد أعادت إلى أذهان الناس شبح الحرب النووية. تقول: ’’هناك قلق متزايد. لقد رأيت هذا العمل التطوعي في متحف هيروشيما التذكاري للسلام. يدرك الزوار تدريجيا ما تمثله هيروشيما وناغاساكي حقا‘‘. لكنها لا تريد أن يكون التركيز على الندوب التي أحدثها القصف. ’’أريد أن ينظر الناس إلى هيروشيما كرمز للتجديد وبناء السلام، وأن ينقلوا هذه الرسالة إلى جيل الشباب‘‘. وهي تعتبر منزل شمو تجسيدا لهذه الرسالة. ’’إنه صغير جدا بحيث يمكن للمرء أن يمشي بجواره بسهولة دون أن يلاحظه. لكنه نصب تذكاري مؤثر يرمز لقوة الأمل‘‘.

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: متطوعون يعلقون لافتة توضح شعار منازل لهيروشيما خارج الموقع. تبرع بها جان والكينشو/بإذن من متحف هيروشيما التذكاري للسلام)

هيروشيما العلاقات اليابانية الأمريكية الحرب العالمية الثانية ناغاساكي