تحدي المستحيل وتحقيق النجاح: أستاذ في جامعة طوكيو يلهم صناع السينما لتخليد مسيرته في فيلم مؤثر

مجتمع

في عالمنا هذا، تبرز العديد من الشخصيات العظيمة التي تحدّت الظروف والأوضاع وحققت نجاحات استثنائية تُشار إليها بالبنان. عند الحديث عن اليابان، لا يمكننا إغفال المسيرة الحافلة والإنجازات الضخمة التي حققها فوكوشيما ساتوشي متحدياً إعاقته. رغم أن مقالاً واحداً لا يكفي لسرد كل نجاحاته ومعاناته، إلا أنه يمكن أن يكون مدخلاً لتعريف شخصيته الرائعة وما مر به من تحديات استطاع تجاوزها بإصرار وعزيمة. قصة فوكوشيما هي تجسيد حي لقدرة الإنسان على فعل أي شيء إذا ما عقد العزم وكفّ عن النظر إلى الحياة من منظار أسود، متحليًا بالصبر والانضباط والإيمان بقدراته والهدف الأسمى الذي خلق من أجله. في هذه المقالة، سنتعرف على جوانب من حياة هذا البطل الملهم وكيف تمكن من تحويل محنته إلى قصة نجاح استثنائية.

فوكوشيما ساتوشي FUKUSHIMA Satoshi

فوكوشيما ساتوشي ولد في محافظة هيوغو عام 1962. فقد بصره تماماً في سن التاسعة ثم فقد سمعه في سن 18 عامًا. أصبح أستاذاً مشاركاً في جامعة كانازاوا، وكان قبلها أستاذاً في مركز أبحاث جامعة طوكيو للعلوم والتكنولوجيا المتقدمة منذ عام 2008، ويعد أول شخص أصم مكفوف في العالم يصبح أستاذاً جامعياً بدوام كامل. هو مدير الرابطة اليابانية للصم المكفوفين وتولّى منصب الممثل الإقليمي عن قارة آسيا في الاتحاد العالمي للصم المكفوفين لمدة خمس فترات حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2022. في عام 1996، فاز بجائزة يوشيكاوا إيجي الأدبية بالاشتراك مع والدته ريكو، وفي عام 2003 اختارته مجلة تايم الأمريكية ضمن أبطالها الآسيويين. تشمل كتاباته Mōrōsha toshite ikite (الحياة كشخص أصم مكفوف) و Boku no inochi wa kotoba to tomo ni aru (بالكلمات أحيا).

فوكوشيما ساتوشي هو أستاذ في جامعة طوكيو التي تعد أعرق مؤسسة تعليمية في اليابان. لكن طريقه إلى تقلّد هذه المكانة المرموقة لم يكن مفروشاً بالورود، لا سيما وأنه فقد في شبابه الحاستين الأساسيتين اللتين تمكنان الإنسان من التعلم ألا وهما السمع والبصر. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 تم طرح فيلم ” لمسة أم“ (Sakura iro no kaze ga saku) في دور السينما في جميع أنحاء البلاد، ولقد ساهم هذا الفيلم، الذي تم تصويره عن مراحل حياة فوكوشيما غير الاعتيادية، في التعريف بقصته الملهمة وإلقاء الضوء على معاناته ونجاحاته.

في هذا المشهد من الفيلم، يحتفل الشاب ساتوشي (قام بدوره الممثل تاناكا تاكيتو) ووالدته ريكو (قامت بدورها الممثلة كويوكي) بقبوله في الجامعة رغم كونه أصماً مكفوفاً. (© Throne/Karavan)
في هذا المشهد من الفيلم، يحتفل الشاب ساتوشي (قام بدوره الممثل تاناكا تاكيتو) ووالدته ريكو (قامت بدورها الممثلة كويوكي) بقبوله في الجامعة رغم كونه أصماً مكفوفاً. (© Throne/Karavan)

بمناسبة بدء عرض الفيلم، تحدثنا إلى فوكوشيما حول الدروس التي تعلمها خلال حياته الرائعة.

يوميات بطل من ذوي الاحتياجات الخاصة

بدأت حديثي معه بسؤال عما إذا كان يبادر إلى بدء حوار مع شخص آخر في حياته اليومية، فعلى عكس العديد من الأشخاص المصابين بالصمم الخلقي، ظل فوكوشيما قادراً على السمع بشكل طبيعي حتى بلغ الثامنة عشرة من العمر. ولقد احتفظ ”بذاكرته“ للغة التي كان يسمعها قبل أن يفقد سمعه، ولذا فهو لا يزال قادراً على التحدث دون صعوبات.

وقد كانت إجابته كالتالي: ”لكي يحدث تواصل، لا يكفي مجرد التحدث، فطالما كان أحد الطرفين عاجزاً عن سماع ما يقوله الطرف الآخر، لا يمكن اعتبار هذا حواراً أو بالأحرى يمكن اعتباره حواراً من طرف واحد. لذلك عادةً ما أتحدث فقط عندما يكون معي المترجم الفوري لأن هذا يتيح لي فهم ما يقوله الطرف الآخر، أو عندما يكون من الضروري جداً أن أتحدث. لكن هناك بعض الاستثناءات لما ذكرته تواً، فعلى سبيل المثال أنا أذهب إلى الحمّام بمفردي، لذلك قد أغمغم بملاحظة حول الطقس إذا كان يومًا باردًا أو شيئاً من هذا القبيل، ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك“.

البروفيسور فوكوشيما يسير في رواق مركز أبحاث جامعة طوكيو للعلوم والتكنولوجيا المتقدمة. إنه قادر على استخدام المرحاض دون مساعدة (© هاناي توموكو)
البروفيسور فوكوشيما يسير في رواق مركز أبحاث جامعة طوكيو للعلوم والتكنولوجيا المتقدمة. إنه قادر على استخدام المرحاض دون مساعدة (© هاناي توموكو)

عندما تجلس مع الأستاذ فوكوشيما، تدرك أن إشارته إلى ”الارتباط“ بالمترجم الفوري صحيحة تمامًا. فبعد أن فقد بصره وسمعه يعتمد فوكوشيما على حاسة اللمس في أطراف أصابعه للتواصل. حيث تجلس بجانبه مترجمة تحوّل كلام الناس إلى لغة لمس باستخدام أطراف الأصابع على طريقة برايل. تجلس هي وفوكوشيما وأيديهما متشابكة، وتقوم المترجمة الفورية بنقل الكلام إليه عن طريق لمس أطراف أصابعه.

في طريقة برايل للتواصل بالأصابع، تقوم المترجمة الفورية باعتماد أسلوب النقر على أطراف أصابع فوكوشيما بطريقة مشابهة لطريقة استخدام الآلة الكاتبة بطريقة برايل لإيصال الرسائل باستخدام طريقة برايل اليابانية. وكما يعرض لنا الفيلم، فإن طريقة الاتصال هذه ابتكرتها ”ريكو“ والدة فوكوشيما مدفوعة بحاجة ملحة للتواصل مع ابنها. وعلى مر السنين تم إدخال تحسينات عليها، ثم انتشرت منذ ذلك الحين طريقة برايل للتواصل بالأصابع كإحدى الطرق التي يستخدمها الصم المكفوفون للاتصال الفوري.

هارونو موموكو المترجمة الفورية المتخصصة في طريقة برايل للتواصل بالأصابع التي تعمل مع فوكوشيما تنقر على أطراف أصابعه لمساعدته على فهم ما يقال. (© هاناي توموكو)
هارونو موموكو المترجمة الفورية المتخصصة في طريقة برايل للتواصل بالأصابع التي تعمل مع فوكوشيما تنقر على أطراف أصابعه لمساعدته على فهم ما يقال. (© هاناي توموكو)

بمساعدة المترجمة الفورية المتخصصة في طريقة برايل للتواصل بالأصابع، تجري المحادثة مع فوكوشيما بسلاسة، حيث يتم إيصال أسئلة المحاور إلى فوكوشيما في الوقت الفعلي بواسطة مترجمته الفورية، وتأتي الإجابة على الفور تقريبًا بصوت فوكوشيما نفسه. تستمر العملية بسلاسة ويكون معدل التأخر بين السؤال والجواب أقل من المعتاد عند استخدام مترجم فوري للترجمة بين لغتين مختلفتين. تتواصل المحادثة بشكل طبيعي لدرجة يصعب معها تصديق أن الرجل الذي أمامنا يعيش في عالم مظلم يلفّه السكون.

الإنترنت نافذة من الأمل

لا شك أن القراءة جزء لا يتجزأ من عمل فوكوشيما باعتباره أستاذاً جامعياً. سألناه عن تجربته مع القراءة بطريقة برايل كشخص أصم مكفوف، فقال: ”أكثر أشكال الكتابة شيوعًا بالنسبة للمكفوفين في اليابان تُستخدم فيها سلسلة من ست نقاط لتمثيل أصوات المقاطع اليابانية، فعندما تقرأ وتكتب يمكنك التحويل بين نقاط برايل والكانجي ويمكنك أيضًا اختيار الحرف المحدد الذي تريد استخدامه عند الضرورة.“

تعلم فوكوشيما العديد من حروف الكانجي في المدرسة الابتدائية قبل أن يفقد بصره، ولكنه الآن لا يتذكر الكثير من تلك الحروف من خلال شكلها. إلا أنه يرى أن هذا لا يشكل سوى عقبة صغيرة.

”حتى لو لم أتمكن من تصور شكل الحروف، فأنا أعرف ما تعنيه والمواقف التي يتم استخدامها فيها. لدي قاموس كوجيئين (Kōjien) الكبير محمّلاً كبيانات نصية على جهاز الكمبيوتر الخاص بي، وأحب قراءته كثيراً كما أستخدمه دائماً للبحث عن معاني الكلمات“.

ما الذي يعنيه أن تقرأ على جهاز الكمبيوتر الخاص بفوكوشيما؟ يستخدم فوكوشيما جهازًا خاصًا يحول البيانات النصية إلى نصوص يمكن قراءتها بطريقة برايل اليابانية. ويمكّنه هذا الجهاز من الاتصال بالإنترنت وقراءة الأخبار. كما أنه يستخدم وظيفة إخراج النص الموجودة في الجهاز للكتابة بطريقة برايل، التي يتم تحويلها بعد ذلك إلى نص ياباني، مما يتيح له كتابة رسائل البريد الإلكتروني وإرسالها.

يوضح فوكوشيما كيفية استعمال الجهاز المحمول BrailleSense المستخدم لإدخال المعلومات بطريقة برايل وترتيبها. اللوحة السوداء الموجودة في مقدمة الجهاز تسمح له بالقراءة والكتابة بطريقة برايل. (© هاناي توموكو)
يوضح فوكوشيما كيفية استعمال الجهاز المحمول BrailleSense المستخدم لإدخال المعلومات بطريقة برايل وترتيبها. اللوحة السوداء الموجودة في مقدمة الجهاز تسمح له بالقراءة والكتابة بطريقة برايل. (© هاناي توموكو)

”يمكن للمكفوفين استخدام ميزة تحويل النص إلى كلام على الهواتف الذكية وقراءة الكتب بهذه الطريقة، ولكن بالنسبة للصم المكفوفين منا، لا فائدة من القيام بهذا دون وجود مخرجات بطريقة برايل. الجهاز الذي أستخدمه يسمى BrailleSense. بالإضافة إلى ميزة الإدخال والإخراج بطريقة برايل، يمكنه أيضاً الاتصال بالإنترنت. لقد قمت بتثبيت بيانات لنحو 7000 كتاب مقروء بطريقة برايل على هذا الجهاز، فضلاً عن حوالي 1000 كتاب إضافي قمت بتحويل محتواها إلى بيانات نصية، يمكنني قراءتها في أي وقت عبر شاشة إخراج برايل“.

يوضح فوكوشيما كيفية استخدام جهاز BrailleSense الخاص به من خلال قراءة الأخبار من إحدى الصحف على الإنترنت. تجلس على يساره مايدا أتسومي المترجمة المتخصصة في طريقة برايل للتواصل بالأصابع. (© هاناي توموكو)
يوضح فوكوشيما كيفية استخدام جهاز BrailleSense الخاص به من خلال قراءة الأخبار من إحدى الصحف على الإنترنت. تجلس على يساره مايدا أتسومي المترجمة المتخصصة في طريقة برايل للتواصل بالأصابع. (© هاناي توموكو)

ويشير فوكوشيما إلى أن هذا النوع من الأجهزة المتطورة لم يكن متاحًا عندما كان أصغر سناً. ”في عام 1981 فقدت سمعي ثم بصري، بالتأكيد لم تكن هذه التقنية متوفرة في ذلك الوقت. لقد كان تقدم هذا النوع من التكنولوجيا نعمة حقيقية بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصة، فحتى إذا كانت حركتك الجسدية محدودة أو كنت غير قادر على الحركة، لا يزال بإمكانك الاتصال بالعالم من خلال الإنترنت. هذا الجهاز الذي أستخدمه مفيد للغاية بالنسبة لي لأنه يتيح لي الوصول إلى المعلومات، لكنه باهظ الثمن لأن سوق هذه الأجهزة محدود للغاية. كنت محظوظاً لأني تمكنت من شراء هذا الجهاز باستخدام نفقات البحث الخاصة بي، لكن معظم الأشخاص الذين يحتاجون إلى هذا النوع من الأجهزة يضطرون إلى إنفاق حوالي 200 ألف ين من أموالهم الخاصة، حتى مع وجود بدلات الدعم العام التي توفرها الحكومة. إن العيش بإعاقة ينطوي على الكثير من النفقات الإضافية من هذا النوع“.

استحالة التباعد الاجتماعي

يتيح هذا الجهاز لفوكوشيما الحصول على معلومات من جميع أنحاء العالم بشكل يومي. وبسؤاله عن القضايا التي تهمه أكثر من غيرها في الوقت الحالي قال:

”القنابل القذرة، وانخفاض قيمة الين، لكن طالما أننا قادرون على الاستمرار في كسب لقمة العيش، فلن يزعجني ذلك كثيرًا. أنا قلق أكثر من أن تلجأ روسيا إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية. إذا حدث ذلك، فسيكون له تأثير على اليابان أيضًا على عدة مستويات. لذا فإن الحرب في أوكرانيا واحتمال قيام روسيا بتصعيد الموقف واستخدام أسلحة نووية تكتيكية، مع العلم بأن استخدام القنبلة القذرة سوف يكون إحدى مراحل هذا التصعيد، هو أكثر ما يقلقني“.

بالحديث أكثر عن اليابان، أرى أن الفترة التي تفشت خلالها جائحة كوفيد-19 خلال السنوات القليلة الماضية كانت فترة بائسةً إلى حد كبير، لا سيما المراحل الأولى عندما لم يكن متوفراً لدينا القدر الكافي من المعلومات، لقد كانت أوقاتًا مقلقة للجميع.

ويشير إلى أنه ”إذا امتنعنا عن التواصل الجماعي فلن نكون قادرين على التواصل نهائياً، لذلك من المستحيل بالنسبة لنا تجنب اثنين على الأقل من الأسباب الثلاثة الرئيسية التي تؤدي إلى انتشار العدوى، أو كما أطلقت عليها الحكومة (three Cs)، والتي تم حث الناس على تجنبها لتقليل أخطار الإصابة بالفيروس. لقد كان إخبارنا بتجنب الاتصال الوثيق والأماكن المغلقة بمثابة إخبارنا بالامتناع عن التحدث، وكان هذا أكبر مصدر قلق للصم المكفوفين، فقد حوصر الكثيرون وحيدين في منازلهم وعاشوا أوقاتاً صعبة للغاية. بالإضافة إلى ارتداء القناع الذي يشبه أن يخنقك أحدهم بكيس كبير، فعندما تكون أصلاً عاجزاً عن الرؤية أو السمع، يكون وضع قناع يجعلك عاجزاً أيضاً عن الشم أمرًا صعبًا للغاية، إنه أشبه بالاختناق“.

التغلب على العزلة

كانت مشكلة الاتصال مصدر قلق على مستويات عديدة خلال الوباء. لأنه وبحكم عمله يكون على اتصال يومي بالطلاب، سألته عما إذا كان هناك ما استرعى انتباهه بشكل خاص في هذا الشأن.

”أشعر بالقلق لأن العديد من الطلاب معزولون تمامًا - لا سيما المجموعة التي بدأت دراستها في ربيع عام 2020 وأصبحوا الآن في عامهم الدراسي الثالث. فلمدة عامين بعد دخولهم الجامعة، كانت جميع المحاضرات تقريبًا تُدرّس عبر الإنترنت، وفُرضت قيود صارمة على الاختلاط الاجتماعي والأنشطة اللامنهجية. أعتقد أن الكثيرين منهم لم يشعروا بأنهم في الجامعة من الأساس“.

عندما كان فوكوشيما طالباً، لم تكن الهواتف الذكية منتشرة كما هو الحال الآن، لكنه أشار إلى أن هذه التكنولوجيا لا يمكنها سد جميع الفجوات التي تسبب فيها الوباء. ”أنت لا تشارك نفس المساحة على الهاتف، فالناس بحاجة إلى قضاء الوقت والمشي والأكل والشرب مع بعضهم البعض، وعدم القدرة على فعل هذه الأشياء يؤدي إلى الشعور بالوحدة والعزلة. فضلاً عن الضحك ومشاركة النكات والاتصال المادي، هذه اللحظات الصغيرة من التواصل الجماعي تعد عامل دعم مهم“.

وبالحديث عن أهمية التواصل الجماعي، جدير بالذكر أن فوكوشيما كان يبلغ من العمر 18 عامًا عندما فقد سمعه أولاً ثم بصره. وقد وصف شعوره بالعزلة حينها بأنه أحس كما لو كان قد أُلقي به وحيداً في الفضاء الخارجي.

”في الفضاء، لا يوجد سطوع ما لم يكن هناك شيء ينعكس عليه الضوء، أما ما دون ذلك فهو ظلام دامس وقد كان هذا ما شعرت به حين فقدت السمع والبصر. فنحن بحاجة إلى بعض الاستجابة من العالم الخارجي المحيط، وعندما تحدث هذه الاستجابة من أشخاص آخرين، يصبح لدينا إحساس حقيقي بأننا على قيد الحياة وأننا نشع ضوءاً وحياة. إنه ليس شيئًا نشعر به كمفهوم، بقدر ما هو شيء مادي وجسدي. لذلك في حالتي عندما انحسر هذا الإدخال الشعوري إلى لا شيء تقريبًا، كان من الصعب جدًا استيعاب الأمر والتعايش معه“.

كانت والدة فوكوشيما دائمًا شخصية متعاطفة وداعمة له في حياته، لكنه ذكر شعوراً كان يراوده بعدم القدرة على الوثوق بها، ربما كان هذا أمراً عادياً بالنسبة للأطفال الذكور لا سيما خلال فترة المراهقة. وقد كتبت والدته في مذكراتها، ”لا أعرف ما يفكر فيه ساتوشي“.

عندما أخبرته بذلك، أجاب: ”لم أكن أحاول إخفاء أي شيء، كل ما في الأمر أنني لم أكن أتكلم لأني لم أرى أن الكلام سيحدث أي فرق. انقطع اتصالي بالعالم الخارجي وشعرت أن ما من شيء يمكنني فعله لتغيير هذا الواقع. لقد سقطت في هوة سحيقة وشعرت أنني أصبحت في قاع المحيط. في الفيلم هناك عدة مشاهد يبكي فيها تاناكا تاكيتو، الممثل الشاب الذي يلعب دوري، لكنني في الحقيقة لم أبك قط، فعندما تصبح الحياة بهذا القدر من الصعوبة والبؤس يعجز المرء حتى عن البكاء، إننا لا نذرف الدموع إلا على الأشياء الصغيرة التافهة“.

أحد مشاهد الفيلم يصور اللحظة الملهمة التي ابتكرت فيها ”ريكو“ والدة ساتوشي طريقة برايل للتواصل بالأصابع كوسيلة للتواصل مع ابنها. (Throne/Karavan ©)
أحد مشاهد الفيلم يصور اللحظة الملهمة التي ابتكرت فيها ”ريكو“ والدة ساتوشي طريقة برايل للتواصل بالأصابع كوسيلة للتواصل مع ابنها. (© Throne/Karavan)

السباحة ضد التيار

فكيف استطاع أن ينهض مرة أخرى من هذا القاع إذن؟

”بينما كنت أقرأ وأكتب، أمضيت وقتاً طويلاً في التفكير. إن التفكير هو كل ما يمكنني فعله حقًا. اعتقدت أنه إذا كان للحياة أي معنى، فلا بد أن يكون هناك معنى لمعاناتي أيضًا. يفقد الكثير من صغار السن حياتهم فجأة بسبب الحوادث أو المرض، وقد فقدت العديد من الأشخاص بهذه الطريقة. لكني مُنحت هبة الحياة“.

كان على فوكوشيما أن يتأقلم مع العيش دون القدرة على الرؤية أو السمع. يقول ”ما الذي يعنيه هذا؟ الحالة الوحيدة التي سمعت عنها وكانت تشبه حالتي هي هيلين كيلر، بالتأكيد كانت هناك حالات كثيرة مشابهة لحالتي في اليابان أيضًا لكن أحداً لم يسمع بهم لأن المجتمع لم يعرهم أي اهتمام. لقد بدأت أدرك الرسالة الموجهة لي، نعم أدركت أن عليّ القيام بشيء لمساعدة هؤلاء الأشخاص“.

مهمتنا ببساطة هي أن نعيش

يكافح بعض الناس لإيجاد معنى للحياة ويقفزون إلى استنتاجات سوداوية إذا لم يجدوا ضالتهم، لكن فوكوشيما يحثنا على المثابرة. ”إذا سلّمنا بأن الحياة لا معنى لها، فستكون هذه هي نهايتها. وإذا كنت تعتقد أن الوجود البشري لا معنى له، فهذا الاعتقاد يُفقد كل شيء معناه. أعتقد أنه علينا أن نؤمن بوجود معنى لحياتنا، حتى وإن عجزنا عن تحديده بالضبط. هذا هو الدور المنوط بنا، أن نعيش، أولاً وقبل كل شيء، وبعد ذلك نواصل العيش واجتياز العقبات“.

ألاحظ أن معظم الناس غير قادرين على النظر إلى جوهر الأمور بشكل أكثر بساطة، ويقلقون كثيراً بشأن تفاصيل الكيفية التي يجب أن يعيشوا بها حياتهم.

يقول: ”أعتقد أن الناس يبذلون جهداً مضنياً سعياً منهم لإيجاد معنى عميق لحياتهم وتحديد طريقتهم الحقيقية والفريدة من نوعها في العيش“، لكن ينتهي بهم الأمر بتحقيق عكس ما أرادوه، فيعيشون حياة تتحكم فيها وتوجهها أمور سطحية. إنهم قلقون بشأن ما يعتقده الآخرون، ويقارنون أنفسهم بالآخرين، ويعيرون اهتماماً كبيراً لأشياء غير مهمة إطلاقاً. لقد عشت حياتي على قناعة بأن المقارنة مع الآخرين أمر لا معنى له ولا خير منه”.

يقول فوكوشيما إن أحد الصحفيين سأله ذات مرة عما إذا كان يشعر بالغيرة من الأشخاص المعافين القادرين على عيش حياتهم دون قيود أو عوائق.

”بقدر ما أتذكر، لم يراودني هذا الشعور أبدًا. أنا إن أمضيت وقتي أفكر بهذه الطريقة “هذا الشخص يستطيع أن يرى، وذاك الشخص يستطيع أن يسمع، وتملّكني الشعور بالغيرة من هذا ومن ذاك، فستتحول حياتي إلى جحيم ولن أكون قادرًا على الاستمرار في العيش. كل شخص مختلف والناس لديهم حياتهم، وأنا لديّ حياتي. هذا هو الأساس الذي أعيش عليه حياتي. لا أحد يستطيع أن يعيش حياتك من أجلك، بل عليك أنت أن تعيشها بنفسك”.

قلت، في بعض الأحيان يقول الناس إنهم يفضلون الموت على مواجهة موقف صعب قد تضطرهم الحياة إليه.

فجاء رده: ”حتى لو لم تكن تعاني من إعاقة، بالنسبة لمعظم الناس، يأتي وقت في الحياة تضعف فيه قدراتهم وتتدهور بسبب التقدم في العمر أو بسبب المرض، فيصبحون غير قادرين على العيش بدون الاعتماد على غيرهم. أولئك الذين كانوا نشيطين في فترة شبابهم من المرجح أن يتمنوا الموت حينها. لكن ألم نكن كلنا أطفالًا، وبدأنا جميعًا حياتنا بالاعتماد على أشخاص آخرين، فإذا بلغنا سن الشيخوخة وأصبحنا غير قادرين على فعل أي شيء لأنفسنا، فهذا أيضًا جزء من الطبيعة ومن دورة الحياة. بعض الناس لا يستطيعون العيش بدون مساعدة الآخرين، والبعض الآخر جاهز للمساعدة ومرحب بها، فالعالم إذن يحتاج إلى وجود كلا النوعين كي يساعد هذا ذاك وننجح جميعاً في تحقيق مهمتنا في العيش والبقاء على قيد الحياة“.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. المترجمون الفوريون المتخصصون في طريقة برايل للتواصل بالأصابع: هارونو موموكو، مايدا أتسومي. الصور بواسطة هاناي توموكو. تم إجراء المقابلة وكتابة المقال بواسطة ماتسوموتو تاكويا. Nippon.com)

اليابان الفن السينما الفن المعاصر