رحلة إلى عالم الحمامات العامة في اليابان
رسومات الحمامات العامة في اليابان !
سياحة وسفر
لايف ستايل- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
إبقاء تقليد ياباني على قيد الحياة
إن مجرد ذكر كلمة ”سينتو“ أو الحمامات العامة الموجودة في الأحياء كافٍ لإثارة مشاعر الحنين لدى معظم اليابانيين الذين هم بأعمار تمكنهم من استرجاع ذكرياتهم عن الزيارات اليومية إلى الحمامات المحلية في السنوات التي كانوا فيها أكثر شبابا. وفي العقود الأخيرة تراجع عدد الحمامات العامة بثبات، في الوقت الذي أصبح فيه التحمم في المنازل من الأعراف والتقاليد. وطبقا لمسح أجري على مستوى كامل البلاد في أبريل/ نيسان ٢٠١٦، فإن أعداد حمامات السينتو تراجعت من قمتها بحوالي ١٨ ألف حمام في عام ١٩٦٨ إلى ٢٦٢٥ حمام فقط في الوقت الحالي.
وأحد الجوانب الأساسية في تجربة الحمامات العامة بالنسبة للكثير من الناس هو الجداريات الضخمة التي تصور جبل فوجي وتغطي المساحة الموجودة فوق أحواض الاستحمام. وهذه الرسومات هي أعمال مجموعة صغيرة من المختصين. وفي أحد الأوقات، كان عشرات الفنانين في أرجاء البلاد يحترفون هذا العمل، ولكن في يومنا الحالي بقي ثلاثة منهم فقط. وأكبرهم سنا هو ماروياما كييوتو البالغ حاليا ٨١ عاما. والثاني هو ناكاجيما موريو البالغ ٧١ عاما وقد تم تحديده رسميا بأنه ”معلم حرفة معاصر“ من قبل الحكومة العام الماضي. أما الفنان الثالث فحالة مختلفة قليلا، حيث إنها تاناكا ميزوكي وهي شابة في الثلاثينيات من العمر.
في أحد أيام شهر يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، أعدت تاناكا سلالمها ونصبت سقالتها داخل حمام ناكانويو في كاساي الموجودة في إيدوغاوا بطوكيو، وبدأت بالعمل على رسمة جديدة عن جبل فوجي والتي تمتد بين حمامي النساء والرجال. وكما درجت العادة، توجب على تاناكا العمل بسرعة. وكانت الخطة تقتضي الانتهاء من الجدارية المترامية الأطراف في يوم واحد من أيام العطلة الأسبوعية للحمام. ويجب أن تغطي الجدارية مساحة تمتد لستة أمتار عرضا وبارتفاع ٣ أمتار فوق أحواض الاستحمام. وقد صعدت تاناكا أحد السلالم وبدأت عملها من بقعة مرسوم عليها السماء بالقرب من السقف.
الصورة السابقة التي كانت تزين جدران حمام ناكانويو كانت رسمة مفعمة بالحياة لجبل فوجي من عمل الراحل هاياكاوا توشيميتسو. ولأن اللوحات تتلف مع مرور الزمن، فمن الطبيعي استبدال الجداريات كل بضع سنوات. إحدى القواعد الأساسية عند إعادة طلاء الصور تتمثل في جعل الطلاء جديدا عبر تغيير أماكن العديد من العناصر – يجب أن تختلف عندما ينظر إليها من قسمي النساء والرجال – وتبديل الألوان حتى ولو بقي الموضوع الأساسي للرسمة نفسه، والذي يكون جبل فوجي عادة في حالة السينتو.
يبدأ عمل تاناكا بكشط الرسمة القديمة التي بدأت بالتقشر. ومن ثم تشرع برسم السماء قبل أن تضيف الغيوم وأمامية اللوحة والخلفية وجبل فوجي. مع الحفاظ بعناية على إحساس من التوازن في الصورة على طول الوقت بينما تتحرك فرشاتها بثبات جيئة وذهابا. وهو عمل يتطلب الانتباه إلى التفاصيل بالإضافة إلى الرؤية والتركيز والقوة البدنية. وعند الانتهاء من أحد الجوانب، تنقل تاناكا معداتها وتشرع بالعمل على النصف الآخر من اللوحة. ومع إكمال اللوحة نهائيا أصبحت الساعة تقريبا التاسعة مساء. والحمام العام الآن فيه صورة جديدة لجبل فوجي تمنح إحساسا بالسكينة بألوان لطفيفة وأكثر بعثا على الاسترخاء من تلك التي كانت في الرسمات السابقة لهذه الجدارية.
رسم السماء
درست تاناكا تاريخ الفن في جامعة مييجي غاكوئن ولكنها صغيرة جدا بالسن على أن تحمل ذكريات الذهاب إلى الحمام العام المحلي عندما كانت طفلة. وهذا يطرح سؤالا حول تمكنها من صناعة مهنة تقوم على رسم صور في الحمامات العامة.
تقول تاناكا إن اهتمامها بالفن المعاصر يعود إلى المرحلة التي كانت فيها طالبة. وأكثر الفنانين المفضلين لديها هما فوكودا ميران والتي أعمالها تعيد بجرأة تفسير قطع فنية تاريخية، وتابايمو والتي تعالج مشاهد من الحياة اليومية من وجهات نظر جديدة جريئة. وأصبحت تاناكا مسحورة باستخدام الفنانتين للحمامات العامة كفكرة رئيسية في أعمالهما، وهذا ما شجعها على زيارة حمام عام لأول مرة عندما كانت طالبة جامعية. وعندما انغمست بالمياه الحارة ونظرت إلى اللوحات على الجدار، لاحظت كيف أن الجداريات ساعدت في إضافة عمق إلى المكان وبدا أنها تغري الزوار للذهاب في رحلة بعيدا عن العالم اليومي. وتقولها إنها فُتنت بالجاذبية الغريبة التي تتمتع بها الرسومات.
”يبدو أن الوقت يمضي بسرعة مختلفة داخل السينتو. في الكثير من الأحيان تبنى الحمامات العامة بشكل مشابه للمعابد البوذية. وبمجرد دخولها فإنك تشعر بأنك دخلت حيزا مكانيا مختلفا. أنا أحب الانغماس في المياه والتأمل بصورة جبل فوجي. يبدو وكأنك دخلت في حلم يقظة. وتبدأ الذكريات القديمة بالتوارد إلى مخيلتك مجددا. وأحيانا يتبادل معك أحد الزبائن المعتادين أطراف الحديث. وتحظى بتلك التجارب المختصرة المثيرة للاهتمام. وعلى الرغم من أنها مجرد نصف ساعة أو نحو ذلك، أشعر دائما وكأني في رحلة إلى أحد الأماكن البعيدة“.
إن تعرض تاناكا لثقافة السينتو جعلها تهتم باستكشاف المزيد عن الرسامين، وانتهى بها الأمر بكتابة أطروحة تخرج عن تاريخ الصور التي ترسم في الحمامات العامة. لقد أدركت أنه بالنظر إلى أن مباني الكثير من الحمامات العامة آخذة في التردي جراء مرور الزمن وعدم وجود أحد للضلوع بتلك الأعمال فإن حمامات السينتو التقليدية كانت تقفل الواحدة تلو الأخرى مخلفة تبعات واضحة على الرسامين الذين يكسبون قوت يومهم من الحمامات العامة. لقد علمت تاناكا أن الرسامين القلة المتبقين يتقدمون في السن وأدركت أنه ما لم يتم تغيير الوضع، فإن هذه الثقافة الثمينة ستنتهي إلى الأبد في غضون مائة عام. وتقول: ”ولذلك فقد فكرت أنه إذا لم يكن هناك فنانون شباب يستطيعون رسم تلك اللوحات، فإن الأمر سيكون أسرع إذا تعلمت أن أفعل ذلك بنفسي“. وقد تقدمت بطلب لأن تكون متدربة لدى ناكاجيما موريو وبدأت تدريبها في عام ٢٠٠٤.
وبالرغم من أن تلك المرحلة لم تكن سهلة، إلا أن مراقبة المعلم أثناء عمله كان بحد ذاته ينطوي على سحر خاص. ”إن مشاهدة تلك الجداريات العملاقة وهي تأخذ تدريجيا شكلها النهائي، كان له نوع من التأثير العلاجي“. وبعد مرور عدة سنوات على بدء التدريب، سُمح لتاناكا فقط برسم الأجزاء الخاصة بالسماء في اللوحات. ويوما بعد يوم وهي ترسم سماء زرقاء تلو أخرى. وهذه الخبرة جعلتها تدرك أنه على الرغم من أن معلمي الرسم مثل ناكاجيما يجعلون الأمر يبدو وكأنه سهل إلا أن الرسم بنسق واحد على جدار غالبا ما يحتوي على نتوءات وحفر يتطلب تقنية كبيرة. وبادئ ذي بدء، تعين عليها تعلم كيفية التعامل مع الطلاء.
وهناك تحد آخر واجهته في بداياتها وهو تعلم كيفية جعل حركة الغيوم تبدو طبيعية وجعلها تبدو وكأنها تنساق في السماء بصورة طبيعية. في البداية كانت تاناكا تميل لأن تطلي ببساطة مساحات باللون الأبيض على الجدار بأشكال بسيطة. وكان ناكاجيما يسخر من أعمالها تلك في بداياتها وكان يقول :”هذه ليست غيوم“. ولكن من خلال رسم تدرجات وتنوعات خفيفة من الألوان يوما بعد آخر، طورت تاناكا مهاراتها بثبات.
من فوجي إلى غودزيلا
وربما من غير المفاجئ أن العنصر الأكثر صعوبة في اللوحة هو جبل فوجي بحد ذاته. واضطرت تاناكا لإيلاء اهتمام خاص بتعلم كيفية رسم الملامح المتموجة للجبل. ”عادة يرسم الناس جبل فوجي وكأنه ينحدر بزاوية حادة، وهي نفس الطريقة التي اتبعها هوكوساي في مطبوعاته الخشبية. ولكن في الحقيقة، فإن الانحدارات في الجبل الحقيقي ليست بتلك الشدة. أنا أحب رسم صور جبل فوجي بانحناءات لطيفة الأمر الذي قد يساعد الناس على الاسترخاء“.
ترسم تاناكا استنادا إلى صور جبل فوجي المأخوذة من البطاقات البريدية ومنشورات وكالات السفر. وتقول إنها دائما تبحث عن تلميحات عن الطريقة التي يبدو فيه الجبل للناس العاديين. ”بإمكانك القول إن تلك الصور ترقى لأن تكون ذاكرة جمعية لجبل فوجي“. ويتمثل هدفها في رسم صورة لجبل فوجي بحيث يبدو مألوفا بالقدر الكافي لأن يستثير مشاعر الحنين في صدر أي شخص يراها. لا يمكن للصور المرسومة في حمامات السينتو أن تحتوي على أشجار الكرز أو مناظر لتغير أوراق الأشجار الخريفي أو أي شيء آخر من شأنه أن يحصر الصورة في فصل معين. وهكذا الأمر مع الشمس أثناء الغروب فهي مرفوضة، والصورة النموذجية تكون لجبل في نهار يوم مشرق مشمس.
وطبقا لتاناكا فإن رسم صور لجبل فوجي في الحمامات العامة هو الخيار الافتراضي في منطقة كانتو وخاصة محافظات طوكيو وكاناغاوا وسايتاما المتجاورة. وعلى ما يبدو فإن هذا التقليد يعود إلى حقبة ميجي التي تمتد من نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين حين كان برج ضخم على شكل جبل فوجي في أساكوسا وصورة بانورامية للجبل يمكن رؤيتها من قطار في حي كاندا-نيشيكي-تشو، معلمين سياحيين شهيرين. ومن المحتمل أن الرسومات في الحمامات العامة هي للتذكير بهاذين المعلمين السياحيين. أما خارج منطقة كانتو، فإن الكثير من الحمامات العامة لا تحتوي على رسومات على جدرانها وغالبا ما يتم تزيينها بفسيفساء أو لوحات خشبية مطلية ببساطة باللون الأبيض.
بدأت تاناكا عملها الخاص في عام ٢٠١٣، ولكنها تصر على أنه بوصفها فنانة، فإن لديها الكثير من المجال للتطور. ”عادة أنا مهووسة بتفاصيل رسوماتي، وهذا ربما عائد إلى شخصيتي. لدى الفنانين ذوي الخبرة إحساس أفضل بشأن بالمكان الذي يتوجب عليهم تركيز طاقاتهم فيه. وهذا ما يمكنهم من إكمال رسوماتهم بسرعة أكبر، وهو أمر أعمل عليه حاليا“.
اتجهت مؤخرا جماعات معينة إلى الحمامات العامة لاستخدامها لأغراض دعائية. فقد أوكلت منشأة ينابيع مياه حارة في طوكيو هي ”أووتا كورويو أونسين دايني هينودييو“ في نيشي-كاماتا إلى تاناكا مهمة رسم لوحة خاصة للوحش غودزيلا. والصورة التي عرضت لفترة محدودة فقط مستوحاة من فيلم ”عودة غودزيلا“ وهو أحد الأفلام التي حققت نجاحات كبيرة في شباك التذاكر الياباني العام الماضي.
وتقول تاناكا: ”تم تصوير عدد من المشاهد الرئيسية في الفيلم في كاماتا، وقد اتصل بي أحد الأشخاص من مكتب البلدية ليقول إنهم يرغبون بانتهاز هذه الفرصة للترويج للمنطقة“. والصورة التي رسمتها تاناكا تجمع غودزيلا بمعالم محلية بالإضافة إلى الكثير من العناصر من تقليد السينتو. ويظهر على يسار الصورة رسمة المبنى الأيقوني لشارع سانرايز كاماتا للتسوق، ومعبد هونمونجي في إيكيغامي بالقرب من كاماتا، بينما يظهر على اليمين مطار هانيدا ونهر تاماغاوا وجبل فوجي فوقهما. وعند انتهاء الحملة الدعائية رسمت تاناكا صورة جديدة لجبل فوجي فوق صورة غودزيلا.
تمرير التقاليد لأجيال المستقبل
بالرغم من أن معركة حمامات السينتو من أجل البقاء ستتواصل على الأرجح في المستقبل المنظور، فإن تاناكا متمسكة بأن ”هذه الحمامات لن تختفي أبدا دفعة واحدة“. قام رجال أعمال وشخصيات ثقافية مولعون بالحمامات العامة التقليدية اليابانية بتنظيم فعاليات لزيادة الوعي بين عدد أكبر من الناس بجاذبيتها. وقد ساعدت تاناكا بذاتها في هذه الأنشطة من خلال المشاركة في ورشات رسم للأطفال وفعاليات حية للرسم.
ويبدو أن حمامات السينتو تشهد ارتفاعا مجددا في شعبيتها بين الأشخاص الذين هم في العشرينيات من العمر. والصور العتيقة ذات الطابع القديم في تلك الحمامات تبدأ في التغير، والكثير من الشباب الآن يعتبرونها أماكن روحانية يفوح منها عبق الماضي وأصالة محببة من الماضي السحيق. لقد نجحت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع إلكترونية مكرسة لهذه الغاية في جذب اهتمام محبي السينتو، وقد حمت في إحدى الحالات حماما عاما من الإغلاق، كان في الخدمة منذ خمسينيات القرن العشرين.
وعلى الرغم من تلك المشاريع الجديدة، تقول تاناكا إنه يمكن القيام بالمزيد للترويج للسينتو وإنها تحلم بالتعريف بمفاتن الحمامات العامة المنتشرة في الأحياء التقليدية لعدد أكبر من الزوار الأجانب. وفي السنوات الأخيرة، تم إنتاج ملصقات وكتيبات لتعريف الزوار الأجانب بالحمامات والآداب المرتبطة بها، كما يتوفر حاليا على شبكة الإنترنت فيديوهات توضيحية بعدة لغات. وتقول تاناكا إنها ترغب في رؤية شعبية أكبر للمواقع المتعددة اللغات وترغب في إدراج الحمامات العامة ضمن الجولات السياحية داخل المدن: ”أرغب في رؤية ذلك اليوم الذي تكون فيه زيارة أحد حمامات السينتو المنتشرة في الأحياء جزءا رئيسيا من أي جولة سياحية في اليابان“.
(المقالة الأصلية مكتوبة باللغة اليابانية بقلم إيتاكورا كيمييه من Nippon.com ومنشورة بتاريخ ٢٤ فبراير/ شباط ٢٠١٧. الترجمة من الإنجليزية. جميع الصور من أووكوبو كييزو ما لم يذكر خلاف ذلك).