
شغف بلا حدود: فنانة فرنسية تقتحم عالم المسرح الياباني وتتألق في أصعب فنونه!
ثقافة- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
عشق مبكر للثقافة اليابانية
بالنسبة لكثير من الأجانب حول العالم، يكون أول احتكاك لهم بالثقافة اليابانية عبر المانغا، أو الرسوم المتحركة، أو ألعاب الفيديو، لكن بالنسبة لكلوي فياتي، فقد بدأت رحلتها بطريقة مختلفة تمامًا. كانت خطوتها الأولى نحو اليابان من خلال زميلة يابانية في مدرستها الابتدائية في باريس، حيث فتحت لها تلك الصداقة بابًا نحو عالم جديد ومثير، مليء بلغة غير مألوفة، وتقاليد غامضة، وعادات مختلفة تمامًا عن تلك التي نشأت عليها.
داخل منزل صديقتها اليابانية، وجدت كلوي نفسها غارقة في أجواء بدت وكأنها تنتمي إلى بعد آخر. في غرفة المعيشة، كانت شاشة التلفاز تبث برامج هيئة الإذاعة التلفزيون اليابانية، بينما جلست الصديقتان على الأرض، تتصفحان دفاتر ملاحظات مليئة بأحرف الكانجي المعقدة، التي بدت أشبه برموز سرية تنتظر من يفك طلاسمها. لم يكن الأمر مجرد دروس تلقينية، بل كان استكشافًا ممتعًا لعالم لم يكن له حدود. ومن بين الذكريات التي ظلّت محفورة في ذاكرتها، لحظة تلقيها هدية مميزة من صديقتها: كيمونو صغير، كانت قد ارتدته الأخيرة خلال احتفال شيتشي-غو-سان، وهو طقس ياباني يحتفل بنمو الأطفال في أعمار الثالثة والخامسة والسابعة. تلك القطعة من الحرير المطرّز لم تكن مجرد ثوب، بل كانت نافذة صغيرة تطل منها كلوي على تقاليد ضاربة في عمق الزمن.
لم يكن لهذه التجربة أن تبقى مجرد ذكرى طفولية عابرة. فبعد أكثر من عقد من الزمن، وجدت كلوي نفسها تعود إلى ذلك العالم الذي سحرها في طفولتها، فاختارت التخصص في اللغة اليابانية في الجامعة، مدفوعة بشغف ترسّخ فيها منذ سنواتها الأولى. تضحك اليوم وهي تتذكر أيام دراستها قائلة: ”كانت معلمتي تردد دائمًا الكانجي صديقك، لكن الطلاب في الفصل لم يشاركوا الحماسة نفسها، بل كانوا يكرهونها بسبب ذلك“.
متعة الكواليس
بطبيعة الحال، فإن إتقان اللغة المكتوبة يختلف تمامًا عن إتقان المحادثة اليومية. ولا شك أن الطريقة الوحيدة لتطوير مهارات التحدث تكمن في التفاعل المباشر مع الناطقين الأصليين. مدفوعة بحسّها المغامر وشخصيتها المرحة، لم تتردد كلوي في البحث عن فرص تتيح لها الانغماس أكثر في الثقافة اليابانية. من خلال بحث بسيط في الإعلانات المبوبة مستخدمة الكلمات المفتاحية اليابان، تمكنت من تأمين عدة وظائف فتحت لها أبوابًا جديدة للتواصل والتعلم.
كان من بين هذه الفرص العمل في صالة عرض هيرميس، حيث لعبت دور الوسيط بين الحرفيين الفرنسيين وكبار العملاء اليابانيين، ما منحها خبرة مباشرة في التعامل مع الثقافة اليابانية في سياقات مهنية راقية. كما ساعدت المصممين اليابانيين أثناء عروض الأزياء، ورافقت أعضاء مدرسة كانزي، إحدى أعرق المدارس المتخصصة في مسرح نوه التقليدي، خلال جولتهم في باريس.
ورغم أن العمل خلف كواليس مسرح نوه لم يكن يتطلب إتقان كل التعابير اليابانية الرسمية، فإن كلوي نجحت في صقل مهاراتها اللغوية بفضل بيئة العمل الغنية بالتفاعل والتجربة الحسية. لم يكن الأمر مجرد تمرين لغوي، بل كان رحلة لفهم جوهر الأداء المسرحي. وهنا، لعبت خبرتها الممتدة لأكثر من 20 عامًا في الباليه، الذي مارسته منذ أيام دراستها، دورًا أساسيًا في مساعدتها على استيعاب لغة الجسد والحركة التي تميز فنون الأداء اليابانية التقليدية.
لم يتوقف شغفها بالمسرح عند هذا الحد. فبعد انتقالها إلى اليابان، قادها اهتمامها بفنون الأداء إلى اكتشاف عالم مسرح العرائس الكلاسيكي بونراكو، حيث استمرت رحلتها في استكشاف تقاطعات الفن واللغة والثقافة في بلاد الشمس المشرقة.
فن تحريك العرائس في شكله الجديد
يُعرف مسرح العرائس الكلاسيكي في اليابان باسم Ningyō Jōruri، حيث تعني كلمة Ningyō ”دمى“، بينما يشير Jōruri إلى الترانيم المصحوبة بموسيقى آلة الشاميسن الوترية. يعود تاريخ هذا الفن إلى القرن السابع عشر في كيوتو، لكنه شهد تحولات عديدة عبر الزمن، مما جعله يختلف كثيرًا عن شكله الأصلي. ومن بين آخر الفرق التي لا تزال تقدم عروضًا من هذا النوع فرقة ساروهاتشيزا، التي استمدت اسمها من مستوطنة Saruhachi الصغيرة الواقعة على جزيرة سادو في محافظة نيغاتا، حيث يقع مقرها.
لطالما كانت سادو جزيرة غنية بالتراث، إذ ازدهرت يومًا بفضل مناجم الذهب التي اشتهرت بها، والتي تم تسجيلها رسميًا ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو في صيف عام 2024. لكن إلى جانب ماضيها الاقتصادي، تحتفظ الجزيرة أيضًا ببيئة طبيعية خلابة، وهي موطن للعديد من التقاليد الثقافية التي نجح سكانها في الحفاظ عليها، ربما بفضل موقعها النائي على أطراف الأرخبيل الياباني. تشرح كلوي قائلة: ”غالبًا ما يُستخدم مصطلح بونراكو للإشارة إلى العرائس التقليدية، لكن في الواقع، ظهر مسرح بونراكو لاحقًا بعد Ningyō Jōruri وساهم في اندثار الأشكال القديمة منه. لذا، بالنسبة لفرقة تسعى إلى إعادة إحياء الجذور الأصلية لمسرح العرائس، كان من الطبيعي أن تنسب نفسها إلى جزيرة سادو، حيث لا تزال هذه التقاليد متوارثة حتى اليوم.“
لم يكن لقاء كلوي بهذا العالم الفني مجرد صدفة، فقد تمت دعوتها لحضور بروفة في مدينة نيغاتا. تتذكر قائلة: ”لم أفهم تمامًا تفاصيل العرض، لكن الأجواء كانت مبهرة بكل معنى الكلمة.“ حينها، كانت فرقة ساروهاتشيزا تبحث عن أعضاء جدد للمشاركة في تقديم مسرحية ستُعرض لاحقًا في المتحف البريطاني في لندن. ورغم افتقارها للخبرة وعدم كونها يابانية، لم يشكل ذلك عائقًا أمام انضمامها، إذ كان الشغف هو الشرط الأهم. فالدمى، كما هو معلوم، ترحب بالجميع بأذرع مفتوحة – حتى وإن كانت صغيرة. صحيح أن عدد النساء والشباب المنخرطين في هذا المجال قليل، لكن ذلك لا يعود إلى قيود معينة، بل ربما إلى الطبيعة المتخصصة لهذا الفن العريق، الذي لا يزال ينجو رغم تغيرات الزمن.
في عام 2009، انضمت كلوي إلى فرقة ساروهاتشيزا كمحرّك للدمى، وظلت عضوًا فيها حتى يومنا هذا. تم منحها الاسم المسرحي (八里)ياساتو، والذي يمكن قراءته أيضاً ”Pari“، تكريمًا لمدينتها الأم. وجدير بالذكر أن جميع أعضاء الفرقة لديهم اسم يشتمل على إحدى الشخصيتين في ساروهاتشي (القرد) (猿)، وثمانية (八).
وهكذا، كان نهج كلوي في تعلم لغة وثقافة جديدتين من خلال ممارسة فن له تقاليد تمتد لقرون من الزمان.
إتقان اللغة هو المفتاح
بعد انضمامها إلى الفرقة، وجدت كلوي نفسها أمام تحدٍ جديد ساهم في
تسريع إتقانها للغة اليابانية، ألا وهو التعامل مع النصوص المسرحية المعقدة التي كان عليها حفظها. فمعظم المسرحيات التي تقدمها فرقة ساروهاتشيزا هي من تأليف الكاتب المسرحي العظيم تشيكاماتسو مونزايمون (1653-1724)، الذي يُلقب أحيانًا بـ”شكسبير اليابان“. وما زالت هذه المسرحيات تُؤدى بلغتها الأصلية دون أي تعديل، ما جعل الأمر أشبه بفك شفرة لغوية قديمة لفهم ما يجري في كل مشهد.
كان على كلوي أن تقرأ النصوص بعناية، وتتدرب على نطق العبارات بصورتها التقليدية، وتفهم عمق المعاني التي تحملها الكلمات، التي تختلف كثيرًا عن اللغة اليابانية الحديثة. لم يكن الأمر مجرد تدريب على الحفظ، بل كان غوصًا في تاريخ الأدب الياباني ومسرحيات نينغيو جُوروري التي لطالما شكلت مرآة للمجتمع الياباني في عصر إيدو. ومن خلال هذا التحدي، لم تكتفِ كلوي بتطوير لغتها فحسب، بل أصبحت أكثر إدراكًا لثراء الثقافة اليابانية وأسرار فنونها المسرحية العريقة.
لم يكن شغف كلوي بالمسرح الياباني مقتصرًا على الأداء فحسب، بل كانت تسعى لفهم أعمق للنصوص التي تقدمها. لم تكن تشتكي أبدًا عندما تحصل على نص مكتوب بخط اليد يصعب قراءته، بل كانت تمسك قاموسها وتغرق في قراءته حتى يتصبب العرق من جبينها. ومع ذلك، لم يكن مجرد القدرة على القراءة كافيًا، فكانت تبذل جهدًا إضافيًا بترجمة المسرحيات إلى الفرنسية، ليس فقط لتقوية مهاراتها اللغوية، بل أيضًا لفهم كل مشهد بكل تفاصيله.
توضح كلوي قائلة: ”يجب أن تتحرك الدمى في تناغم تام مع النص الذي يرويه تايّو (الراوي)، لذا لا يكفي حفظ النص فقط، بل يجب استيعابه سمعيًا. عندما أستعد لأداء مسرحية، أحتاج إلى وقت طويل حتى أتمكن من حفظ النص والتعود على إيقاعه“. لكن العقبة الأخرى التي تواجهها هي تحديد من يتحدث في كل جملة، فالمسرحيات لا تتضمن تعليمات توضح إن كانت الجملة تعود إلى إحدى الشخصيات أم إلى الراوي نفسه، ما يجعل ترجمتها أحيانًا مليئة بالأخطاء. ومع ذلك، فإن هذه الأخطاء سرعان ما يتم تصحيحها أثناء التدريبات، حيث تتعلم أيضًا فن الارتجال.
تشبه كلوي أداء مسرح العرائس بموسيقى الجاز، حيث تقول: ”لا توجد حركات ثابتة ومحددة كما في الباليه، فليس الأمر أن تسمع مقطعًا معينًا فتقوم بحركة معينة. خلال التدريبات، نتفق فقط على أماكن معينة تمثل اللحظات الرئيسية في المسرحية، لكن كل ما بين تلك النقاط يظل مساحة للإبداع والارتجال“. وهذا بالضبط ما يجعل كل عرض فريدًا، فالأداء يعتمد على اللحظة، والتفاعل بين الراوي والموسيقى والدمى، مما يضفي طابعًا حيًا وديناميكيًا على كل مسرحية.
بملابس سوداء بالكامل تخفي كلوي وجهها عن الجمهور، وتحمل دمية تمثل القرصان كوكسينجا في المسرحية التي عُرضت في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 في هيرادو، ناغازاكي والتي ألّفها تشيكاماتسو مونزايمون عن هذه الشخصية التاريخية. الراوي على اليمين، ممسكًا بآلة الشاميسن. (إهداء من كلوي فياتي)
مسرح الدمى يجسد مشاعرنا وهمومنا
على خشبة مسرح شبه خالية، يتحرك محركو العرائس بملابسهم السوداء التي تجعلهم ”غير مرئيين“، بينما تعزف آلة الشاميسن ألحانها العميقة، وتنبض الدمى الخشبية بالحياة بحركات دقيقة ومدروسة. هذا المشهد البسيط في ظاهره يخفي وراءه فنًا معقدًا ومتجذرًا في الثقافة اليابانية، وهو ما يجعل كلوي تشعر برضا وسعادة غامرة.
تقول كلوي: ”لقد تعلمت الكثير من خلال هذا الفن، ليس فقط عن فنون الأداء، بل أيضًا عن التاريخ والأدب واللغة والبوذية، وحتى العلاقات بين الذكور والإناث في اليابان. كما تعلمت طرق التعبير عن الحزن والبكاء، وحمل السيف أو المِطرد، واستخدام النول، وخياطة الكيمونو، بل وحتى النحت وربط العقد. إنه عالم لا ينتهي من التعلم، وكل يوم يحمل معه اكتشافًا جديدًا.“
لا يقتصر عمل الفرقة على تقديم المسرحيات التقليدية فحسب، بل تسعى أيضًا لإبداع أعمال جديدة. تضيف كلوي: ”لقد قمنا بإعداد عروض مبنية على أعمال رائعة للكاتب لافكايديو هيرن، وهي أعمال لم يسبق أن عُدّلت لتُعرض في مسرح العرائس من قبل.“
ورغم أن مسرح العرائس الياباني الكلاسيكي تم إدراجه في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية عام 2008، إلا أنه لا يزال يواجه صعوبات في جذب الجمهور الأصغر سنًا. تقول كلوي: ”معظم القصص التي نؤديها لا تتناول القضايا العصرية التي تهم الأجيال الجديدة، لكن ما يجعلها صالحة لكل زمان هو المشاعر الإنسانية الخالدة—الحب، الإخلاص، الفخر، الجشع—وهي أمور يمكن لأي شخص أن يتفاعل معها. والأجمل من ذلك أن الأطفال أنفسهم يجدون متعة كبيرة في هذا الفن، لأن العرائس تمتلك سحرًا خاصًا يأسر القلوب“.
قد يكون من الأسهل جذب السياح والمقيمين الأجانب الباحثين عن تجربة يابانية أصيلة. بالإضافة إلى ذلك، يهتم الباحثون اليابانيون والأجانب بهذا الشكل من المسرح، في محاولة منهم لفهم عالم الفنون وطريقة تفكير الناس في فترة إيدو (1603-1868).
فوائد العقبات والتحديات
خارج المسرح، تمارس كلوي دورًا آخر لا يقل أهمية، حيث تعمل أستاذة مشاركة للغة الفرنسية في جامعة جونتيندو في طوكيو. كما أنها شخصية عامة، تظهر على قنوات هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية NHK، مما يجعلها جسراً بين ثقافتين مختلفتين.
بالنسبة لها، فإن الانغماس في التحديات هو السبيل إلى تحقيق إنجازات عظيمة، سواء كان ذلك من خلال الارتجال في عرض حي أو حفظ نص ياباني معقد عن ظهر قلب. لم يكن الطريق سهلاً، لكنها وجدت في هذه الصعوبات فرصة لصقل مهاراتها اللغوية وتصحيح الأخطاء الشائعة التي يقع فيها متعلمو اللغة اليابانية، مثل الخلط بين أدوات مثل wa وga، أو ni وde.
تقول كلوي: ”عند تعلم اللغة اليابانية، التي تختلف تمامًا عن الفرنسية، من الأفضل ألا تستسلم أمام الصعوبات، بل أن تواجه الجبل الذي أمامك. هناك مراحل يجب اجتيازها، مثل محطات الراحة أثناء تسلق جبل فوجي. في تلك اللحظات، عليك أن تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تحدد لنفسك تحديات جديدة، حتى لا تتوقف عن التقدم. لكن الأهم من كل ذلك هو أن تجد المتعة في هذه التحديات، لأن المتعة هي المفتاح الحقيقي ليس فقط لتعلم اللغات، ولكن للحياة بأكملها“.
(نُشر النص الأصلي باللغة الفرنسية في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2024، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: كلوي فياتي تقوم بتحريك الدمى. جميع الصور© إهداء من كلوي فياتي)